وساهمت تطبيقاته في مجالات عدّة على غرار عالم الأعمال والطب والفلاحة والتعليم والفنّ والأمن السيبراني... ووجدت المجتمعات نفسها مجبرة على التعامل مع هذه التطبيقات التي تُوظّفُ خوارزميات الذّكاء الإصطناعي والتي جسّدت أحيانا جوانب طريفة منها كابتكار المطوّر البلجيكي "درايس ديبورتر"، الذي أطلق عليه تسمية "سكروليرز" (Scrollers) المبرمج بلغة "البايثون" (Python)والمؤسس على تقنيات التعلم الآلي للتعرّف على الوجوه والذي يُستخدم لاحتساب مقدار الوقت الذي يقضيه السياسيون أمام شاشات هواتفهم أثناء الاجتماعات البرلمانية.
و في حقيقة الأمر مُتعدّدة هي تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي انبهر العالم بمدى تطورها وفاعليتها وقدرتها على فتــــح الآفاق على مستقبــــل أكثر تقدّمــــا ونموّا وازدهارا حتّى أنّ الفيلسوف السويــــدي Nick Bostrom اعتبر أنّ الذكــــاء الاصطنـــــاعي الفائــــق " Artificial Super Intelligence " سيكون قادرا على لعب ثلاثة أدوار في آن واحد "العرّاف والجنّيّ والملك" كعرّافُ قد يجيب على كل أسئلتنا وكجِنّيُّ قد يُنفّذ كلّ أوامرنا وكملِكِ قد يُدير العالم في ولاية مفتوحة تتيح له تنفيذ أهداف كثيرة وبعيدة المدى.
لكن هل لانبهارنا بالجانب المشرق للذكاء الاصطناعي أن يدوم طويلا لاسيما في غياب نبراس أخلاقي يسمح بالتحكّم في الإمكانيات الكامنة في نظمه وتطبيقاته؟
طبعا سرعـــان ما لاحت الإجابة حاملة في ثناياها الجوانب المظلمة للذكــاء الاصطناعي لتزداد المخـــاوف تعاظما مــــــــع ظهور بعض مــــــــن تقنياته الجديدة تصدّرتها تلـــك التي أطلــــق عليها مطوّرها Ian G. Goodfellow المهندس والباحث الأمريكي في شركة Apple مصطلــــح Deepfakes أي التزييف العميق التي يُعزى انتشارها إلى تطور تقنيات التعليم العميق والتعلم الآلي لتستخدمها في البداية استوديوهات السينما لمعالجة الصور والأفلام حيث تمّ الاعتماد على الخوارزميات لتحديد وجوه الأشخاص وإعادة تركيبها على وجوه أخرى.
ويمكن القول أنّ مصطلح التزييف العميق يُقصدُ به التقنية التي تجمع بين التزييف والذكاء الاصطناعي والمستخدمة في تكوين وإنتاج صورة أو مقطع فيديو لشخص غُيِّر وجهه أو جسده رقميا بحيث يبدو مثل شخص آخر أو يبدو كأنّه يقوم بفعل مُعيّن أو تلك المستخدمة كذلك لفبركة أخبار كاذبة ومحاولة خداع الناس والتسبب بأذى للبعض مع المحافظة الحريصة على مطابقة الوحدة الصوتية وتقاسيم الوجه وتعابيره مثل الابتسامة ونظرة العينين والإيماءات... ليصعبُ تبيّن الحقيقة من الزيف في المظهر أو الأقوال أو الأفعال المفبركة ولتنتشر الأخبار الكاذبة في محاولة لخداع الناس والتسبّب في الأذى للبعض منهم.
وانتشرت تقنية "التزييف العميق" انتشار النار في الهشيم ليدقّ ناقوس الخطر بشأن التهديدات التي تتخفّى في طياتها مع بزوغ عصر جديد من الفبركة والتضليل جعل العالم يقف في حيرة أمامها وقد بات من المستحيل تمييز الحقيقة عن الخداع والصحيح من الزّائف.
وتعاظمت التحديات مع سهولة تزييف الأقوال ومقاطع الفيديو لاسيما مع تكنولوجيا "غيّرت الأوضاع وبدّلت الطباع" وجعلت الحذر هو الأصل في التعامل مع كل ما هو مرئي ومسموع اقتداء بمقولة "لا تصدّق كل ما تسمع ولا تُصدق دائما ما تراه عيناك" وهو ما تأكّد مع ما سجلته الفترة المنقضية من سنة 2024 من تزايد لعمليات الاحتيال التي استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل يومي على مستوى العالم إضافة إلى صعوبة اكتشافها مما كشف عن توجهات مقلقة ومنذرة بالخطر بخصوصها.
و لئن تُستخدمُ تقنية التزييف العميق لارتكاب جرائم انتحال هويّة واختلاس واحتيال وتزوير وابتزاز الكتروني وانتقام إباحي، فإنّ الأمر يزداد خطورة مع الحرب التي يشنّها ذوو الأغراض الخبيثة والدنيئة وناشِرو الأخبار الزائفة المتربصون بسباق الانتخابات في الفضاء الافتراضي بما من شأنه أن يُقوّض الثقة في وسائل الإعلام عبر الاستخدام السيء لهذه التكنولوجيا بقصد التأثير على سير العملية الانتخابية أو إلحاق الأذى بالمترشحين وتحويل اهتمامات الرأي العام نحو قضايا معيّنة مما ينجرُّ عنه التضليل الإعلامي والمساس بالحياة الخاصة للأفراد ولبعض الشخصيات العامة .
وفي هذا السياق قد يكون من المفيد استحضار بعض ما ورد في التقرير الصادر عن جامعة أكسفورد (Oxford)البريطانية والذي أشار إلى أنّ 25% من المحتوى السياسي الذي تمّت مشاركته على مواقع التواصل الاجتماعي "تويتر" موقع "X" حاليا بخصوص الانتخابات الفرنسية التي جرت سنة 2022 كان مضلّلا ومزيّفا.
وباعتبار أنّ العالم يعيش خلال سنة 2024 على وقع انتخابات في أكثر من 50 دولة تمثل مجتمعةً حوالي نصف سكان العالم بما رشّحها لأن تكون "سنة الانتخابات بامتياز " فإنّه مــــن المنتظــــــر أنّ الأمـــــــر قد يتّجه مـــــن سيء إلى أسوأ لاسيما وأن الاستحقاقات الانتخابية عادة ما تشهد إطلاق موجات من الشائعات بهدف التأثير على سير العمليات الانتخابية لصالح طرف ما على حساب طرف آخر أو لصالح أيديولوجية بعينها، وهو ما سجّلته مثلا أخبار الانتخابات الرئاسية الأمريكية المزمع إجراؤها يوم "الثلاثاء الكبير" الموافق ليوم 5 نوفمبر 2024 في ظلّ سباق محموم للمترشّحين نحو البيت الأبيض حيث طالت تقنية التزييف العميق أحد مرشحيها وهو الرئيس الحالي "جون بايدن" مـــــــن خـــــلال مكالمة آلية له انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي يـــــوم 20 جانفي 2024 أي قبل يومين فقط مـــــــن الانتخابات التمهيدية الرئاسية استُخدم فيها الذكاء الاصطناعي لتزييف صوته ليبدو حقيقيا وهو يطلــــــب فيها من سكّان مقاطعة "نيو هامبشاير" عدم التصويت له في تلك الانتخابات لتُقرّر هيئة الاتصالات الفدرالية الأمريكية حظر المكالمات الآلية التي تُستخدم فيها أصوات مُولّدة بواسطة برنامج الذكاء الاصطناعي Robocalls .
كما أعلنـــت شركة "غوغل" الأمريكية أنها ستحــــدُّ مـــــــن نوعية الاستفسارات والأسئلة المتعلّقة بالانتخابــــات التي يُمكــــن طرحها على روبوت المحادثة الخاصة بها "جيميني Gemini " تجنّبا للمعلومات المضلّلة.
وتأسيسا على ما سبق ذكرهُ فإنّه من الواضح أنّ الانخراط في منظومة الذكاء الاصطناعي لم يعد اليوم ترفا أو رفاهية بل أصبح أمرا حتميا للحاق بالركب في هذا المجال، ناهيك مع التطور الكبير الذي شهده خلال الفترة الأخيرة بما جعله يحظى باهتمام عالمي وسياسي لينضمّ اليهما اهتمام المؤسسات البرلمانية أيضا ترجمته رئيسة البرلمان الأوروبي "روبيرتا متسولا" بقولها "الذكاء الاصطناعي بالفعل جزء كبير من حياتنا اليومية، والآن سيكون جزء من تشريعاتنا أيضا".
فبداهة في ظلّ انتشار الاستخدامات السيئة لتطبيقات هذه التكنولوجيا، أصبح لزاما على كلّ المتداخلين وبدرجة أولى المشرِّعين إرساء جسور التعاون المشترك عبر تبادل التجارب والمعارف والممارسات الفضلى بخصوص تعقّب الابتكارات والتسريع في سنّ التشريعات الضرورية للإحاطة باستخدامات الذكاء الاصطناعي ووضع مبادئ وأخلاقيات لها كالنزاهة والإنصاف والأمن والخصوصية والشفافية والمساءلة والمسؤولية تحصينا للحقيقة وحماية لحقوق الأفراد والمؤسسات.
وتصدّرت الأمم المتحدة هذا التوجّه من خلال اعتمادها أوّل قرار من نوعه حول الذّكاء الاصطناعي تحت شعار "نَحكُمُ الذّكاء الاصطناعي بَدَلَ أن يحكمنا هو" ومحوره الاستفادة من الفرص الآمنة والمؤمنة والموثوقة لهذه التكنولوجيا لأغراض التنمية المستدامة. وقد ورد بهذا القرار أنّ "التصميم الضار أو غير السليم لأنظمة الذكاء الاصطناعي وتطويرها ونشرها واستخدامها يشكّلُ مخاطر يمكن أن تُقوّض حماية وتعزيز وممارسة حقوق الانسان والحريات الاساسية".
كما بادر البرلمان الأوروبي بدوره إلى تنظيم مسألة الذكاء الاصطناعي بأن وضع اللبنة الأولى مـــــــن خلال تصويته خـــــلال منتصف شهر مارس2024 على مجموعة رئيسية مــــــن القواعد التنظيمية الأساسية لإدارة الذكاء الاصطناعي المتطوّر الذي يُعدُّ في طليعة الاستثمار التكنولوجي.
لكن وإن تتالت المبادرات بإرساء التشريعات لوضع الأطر القانونية والتنظيمية للذكاء الاصطناعي، فإنّ هاجسا كامنا سيظل قائما بخصوص عدم تناسب نسق إصدار التشريعات مع السرعة الهائلة التي تتطوّر بها هذه التقنيات إذ أنّ ما يتم تشريعه اليوم قد يطويه الزّمن غدا.
ليبقى السؤال مطروحا لمن ستكون الغلبة يا ترى؟ للوجه المشرق لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أم للجانب المظلم منها؟