إلى تحقيق الحاجيات العسكرية وفي تحقيق أمن وسلامة البلدان الأوروبية في السنوات القادمة. واعتبر وزير خارجية الإتحاد جوزيب بوريل في ندوة صحفية أن «أوروبا في خطر والحرب على الأبواب. منظمة الحلف الأطلسي خلقت إحساسا بالارتياح خاطئا».
من الواضح أن اجتياح روسيا لأوكرانيا سرع من تحرك الدول الأوروبية تجاه دعم قدراتها العسكرية والقتالية لمواجهة الخطر الداهم من شرق القارة. وعرج بوريل قائلا «هذه ليست خطوة نحو إعادة التسليح، بل هي نهاية نزع السلاح في صمت.» وهو نفس الموقف الذي عبر عنه قادة الإتحاد في قمة فيرساي يومي 11 و12 مارس الماضي. وصرحت عديد العواصم الأوروبية أن لا بد لأوروبا أن تصبح قوة جيوسياسية وفاعلا أساسيا في الأمن الدولي. ومن هذا الانطلاق تعمل الدول الفاعلة في الإتحاد الأوروبي مثل فرنسا وألمانيا على تحسين قدراتها العسكرية لمواجهة الأزمات في محيطها المباشر وفي الفضاءات المهددة لأمن وسلامة المواطنين في أوروبا. وكرست الدول الأوروبية توجها جديدا وسريعا غير مسبوق لتجميع 1،5 مليار يورو لفائدة الجيوش الأوكرانية في الأيام القليلة الأولى من العدوان الروسي.
موازين القوى في العالم
تنطلق البلدان الأعضاء (28) في الإتحاد الأوروبي من وضعية تتمتع فيها بمجموع 1700 طائرة قتالية حديثة تضاف إلى 250 طائرة نقل و2500 هيليكوبتر من بينها 330 طائرة هجومية. وهو عتاد لا يكفي للتصدي للرهانات العسكرية الحديثة. وتشير احصائيات منظمة الحلف الأطلسي أن مجموع الدول الأوروبية خصصت232 مليار يورو (1،6% من الميزانية) لجيوشها عام 2020 أي قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا. ولم تقم الدول الأوروبية باستثمار ما يلزم لتنمية طاقاتها الدفاعية، بل أن 21 دولة أوروبية عضوا في الحلف الأطلسي لم تصل إلى برمجة %2 من ميزانيتها لتنمية قدراتها العسكرية كما كان مبرمجا.
مقارنة مع باقي الدول العظمى عام 2020، تأتي الولايات المتحدة في الطليعة بإنفاق 778 مليار دولار (ما يعادل 3،7% من الناتج الداخلي العام). أما الصين فقد خصصت 252 مليار دولار. في العقدين الأخيرين رفعت واشنطن من استثماراتها العسكرية بقيمة 66% مقارنة ب 20% من الجانب الأوروبي وب 292% من روسيا و592% من الصين. هذه الأرقام تدل على تأخر أوروبا في بلورة دفاع مشترك يمكنها من الدفاع عن نفسها. وهو ما جعلها تفكر في صياغة نظام أمني وعسكري مشترك يعطيها قدرات جديدة للعب دور فعال في الصراع الدائر بين الأقطاب العسكرية الدولية.
المفارقات الراهنة
يتسم الوضع الحالي بحالة من المنافسة بين الدول الأوروبية فيما بينها لبيع الأسلحة لغير الأوروبيين. وهو ما أسس لفرق شاسع أحيانا في مستوى التسلح بين البلدان الأعضاء. من ناحية أخرى رفضت جل الدول الأوروبية ارساءنظام عسكري موحد تقدم به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.ولم توافق على إقرار برمجة عسكرية شاملة لكل الدول الأعضاء في الإتحاد. لكن كل الحساسيات والحسابات السياسية انهارت مع الحرب في أوكرانيا. وجاءت المفاجأة من ألمانيا التي قررت تغيير عقيدتها الموروثة عن نهاية الحرب العالمية الثانية وقررت استثمار 200 مليار يور للتسلح والمساهمة في البحث التكنولوجي العسكري.
مع تعدد بؤر التوتر (تايوان، الشرق الأوسط، إفريقيا، أوكرانيا) قبلت الدول الأوروبية «خارطة طريق» تشمل عملية التنسيق وإدماج القدرات في نظام دفاعي مشترك والدخول في تطوير قدرات عسكرية هي اليوم متفرقة. لكن الإستراتيجيات الأمريكية لم تأخذ بعين الإعتبار التوجه الأوروبي. بل أقدمت واشنطن على «برنامج أوكس» الموجه ضد النفوذ الصيني بالتحالف مع بريطانيا العظمى على حساب فرنسا التي خسرت صفقة الغواصات مع أستراليا. لكن ذلك كان قبل الحرب على أوكرانيا. اليوم، الوضع الدولي المتقلب لم يلغ نوايا واشنطن التي لا ترغب في قوة عسكرية أوروبية مستقلة، بل هي تعمل من خلال دعمها المالي والعسكري لأوكرانيا (40 مليار دولار) على الإستفراد بالدور الأول في أمن أوروبا.
المفارقة الأخرى تتعلق بعلاقة الدول الأوروبية بمنظمة الحلف الأطلسي التي تنتمي إليها 21دولة من الإتحاد الأوروبي. ولم يتغير الاتفاق المبرم بين الحلف وأوروبا عام 2003 («برلين +») الذي أسس للعلاقات بين الطرفين. وهو يضع على ذمة البلدان الأوروبية قدرات الحلف في العمليات العسكرية التي لا يكون فيها «الناتو» طرفا خاصة أن مراقبة الأجواء الأوروبية تبقى من مشمولات الحلف. وينصهر تطوير القدرات الأوروبية في إطار التفاعل الإيجابي مع منظمة الحلف الأطلسي ولو بشيء من الاستقلالية.
«البوصلة الإستراتيجية»
في قصر فيرساي يومي 11 و12 مارس 2022 وفي ضيافة فرنسا القوة النووية الرادعة الوحيدة في الإتحاد الأوروبي، وفي ظروف اجتياح أوكرانيا، عملت باريس على اقناع الدول الأعضاء بالرغم من تردد البعض بإرساء «البوصلة الإستراتيجية» التي سوف تقود كل الدول الأعضاء إلى رصد المخاطر والاختراقات وتجميع الإمكانيات وتوحيد القدرات في ظروف تدهور المناخ الدولي. وتم اعتماد هذه البوصلة في المجلس الأوروبي يوم 24 مارس لتكون مثال خارطة طريق شاملة وجامعة لكل الدول الأعضاء حول برنامج مشترك للدفاع الأوروبي.
وسوف تكون هذه الخارطة لمدة عشر سنوات المنارة في طريق الأوروبيين الشائك لتوحيد الجهود في أربع ملفات أساسية وهي «العمليات العسكرية» و»الصمود» من أجل حفظ الأمن الأوروبي والاستثمار» في الدفاع و»العمل المشترك» مع الشركاء والحلفاء. ويعتقد الزعماء الأوروبيون أن العمل في نطاق تلك الملفات سوف يعطيهم قوة ويضمن الأمن والسلام في أوروبا أمام المخاطر الجديدة في مجالات العدوان العسكري والإلكتروني. وسوف يفتح الباب أمام تحسين التنقل واللوجستية والمناورات المشتركة في البحر والجو والبر. من جهة أخرى تفرض خارطة الطريق البوصلة استثمارات متعددة في المجالات التكنولوجية وتصنيع الأسلحة والعتاد تحت راية أوروبية في حين تستعمل حاليا الدول الأوروبية اسلحة أمريكية الصنع تعطي هيمنة صناعية وسياسية لواشنطن.
ولو أن فكرة «البوصلة» توحي بقدرة العمل المستقل في أدغال السياسة الدولية، فإن نص الاتفاق أصر على أن تكون للبلدان الأوروبية علاقات متميزة ومتكاملة مع منظمة الحلف الأطلسي الضامن الوحيد الآن لأمن بلدان أوروبا في حرب كلاسيكية في انتظار تحقيق القدرات الجديدة. وهو ما برهنت عليه الحرب في أوكرانيا التي تخوضها موسكو بدون نجاح في الاستيلاء على كامل تراب أوكرانيا بفضل الدور الفعال للمنظمة الأطلسية وللولايات المتحدة الأمريكية. وتتفتح البلدان الأوروبية في خطوتها الجديدة على منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية الأخرى من أجل العمل على بسط السلام في العالم.
والتزمت الدول الأوروبية في وثيقة فيرساي بالعمل المشترك، عبر مقترحات عملية قابلة للتطبيق، على تحسين القدرات الأوروبية في حالة أزمة للدفاع عن أمن أوروبا ومواطنيها. وتم إقرار تشكيل قوة عسكرية متنقلة وسريعة تضم 5000 جندي للاستجابة لأي أزمة طارئة بالتعاون مع 200 خبير أمني يمكن استقطابهم في أقل من شهر.وتبقى الرهانات متعددة أمام القادة الأوروبيين لتحسين مردودهم في التعاون المشترك وترك النزاعات الإيديولوجية والعقائدية جانبا كما هو الحال اليوم مع المجر وبولونيا. ويأمل الجميع النجاح في فرض «استقلالية استراتيجية» لأوروبا بفضل تحسين الاستثمار ودفع عجلة الابتكار والبحث والتعاون المشترك مع الأخذ بعين الاعتبار خسارة الدولة الأوروبية النووية الثانية التي هجرت أوروبا بفضل البريكست.
وكالة وصندوق أوروبي للدفاع
خارطة الطريق الجديدة تم تحضيرها في صلب الوكالة الأوروبية للدفاع التي تم دعمها عام 2021 بصندوق أوروبي للدفاع من أجل تحقيق مشاريع الوكالة التي تخطط لربح الوقت الضائع في العقود الماضية. وتمر هذه الخطة بدعم الاستثمار في الصناعة الحربية وتكوين مخزون أوروبي للذخيرة والعتاد وعدم الشراء المزدوج وتشتيت الجهود. إعادة تسليح الإتحاد هو الهدف الأساسي للوكالة ولا بد أن يكون منظما وعقلانيا. ففي حين تستخدم الولايات المتحدة نوعا واحدا من الدبابات تستخدم البلدان الأوروبية 12 نوعا ليس لها نفس الإمكانات وتتطلب تقنيات ومعارف مختلفة من مستعمل لآخر.
لتحقيق الهدف المرجو لا بد من الاستثمار المشترك الذي لا يتعدى اليوم 11% وتدفع الوكالة إلى رفع المشاركة إلى 35% بفضل «عمل مهيكل ومستدام». واعتمد الإتحاد عام 2021 لأول مرة ميزانية أولية قدرت ب7،9 مليار يورو للفترة ما بين 2021 و2027 من أجل الاستثمار في ميدان الدفاع. ويضاف ذلك لجهود الدول نفسها التي قررت رفع استثماراتها الذاتية مثل ألمانيا التي قررت ميزانية تسليح تصل إلى 200 مليار يورو.
رهانات المستقبل
العمل المشترك في ميدان الدفاع ليس بالأمر الهين. فهو لا يدخل في خانة «العمل التقني» بل هو أساس السياسات المشتركة. وذلك يضع رهانا أساسيا أمام الأوروبيين يتمثل في حوكمة المشروع والقرار المشترك أي التحول تدريجيا إلى مكونات أخذ القرار بصفة فدرالية. وهو ما يرفضه شق كبير من البلدان الأعضاء. الرهان الثاني هو العلاقة المستقبلية مع الحلف الأطلسي في إطار استراتيجية تهدف إلى استرجاع قرار وإمكانيات الدفاع الأوروبي المستقل. لكن هذه المسألة تبقى نظرية بسبب قوة الغطاء النووي الأمريكي أمام التهديدات الروسية الحالية. في إطار التحركات العسكرية التقليدية، أحرزت أوروبا نوعا من الخبرة في مشاركة جملة من البلدان في برنامج برخان الفرنسي في الساحل الإفريقي. ولو أن فشل البرنامج في مالي أدى إلى انسحاب أوروبا من جزء من المنطقة فإن هذه التجربة سوف تستخدمها باريس لتقديم بيادقها في محاولاتها كسب معركة بعث قوة أوروبية مستقلة لها إمكانيات كلاسيكية ونووية قادرة على فرض نفسها كلاعب أساسي على الساحة الدولية.
المفوضية الأوروبية تعلن عن المشروع العسكري المشترك: أوروبا في مفترق الطرق بين الغطاء الأمني الأمريكي والنزعة الانعزالية
- بقلم زين العابدين بن حمدة
- 10:55 23/05/2022
- 1308 عدد المشاهدات
اعلان المفوضية الأوروبية يوم الأربعاء 18 ماي إطلاق مشروع «الدفاع الأوروبي» يطرح عدة أسئلة على مدى نجاح هذا التوجه الرامي