في منعرج خطير يهدد باندلاع حرب جديدة. تهديدات إيرانية بالأخذ بالثأر ضد المنشآت العسكرية الأمريكية، تهديدات مضادة من الرئيس الأمريكي بقصف «52 هدفا، بعضها في مستوى عال و ذات أهمية قصوى .النظام الإيراني يعلن في نفس السياق على «التحرر» من قيود الاتفاق النووي و استئناف برنامج تخصيب اليورانيوم، في حين تعلق الولايات المتحدة الأمريكية العمليات ضد تنظيم داعش في العراق. أما البرلمان الإيراني فيصوت لفائدة لائحة تنادي بترحيل الجيوش الأمريكية المرابطة على الأراضي العراقية.
في هذه الظروف تحركت الدبلوماسية الأوروبية في أعلى مستوى و أصدر يوم الإثنين 6 جانفي كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بيانا ينادي بـ«التهدئة الضرورية» بعد التنديد بـ«الهجمات الأخيرة ضد منشآت التحالف في العراق» والتعبير عن «الانشغال العميق بالدور السلبي الذي تلعبه إيران في المنطقة، وخاصة قوة فيلق القدس تحت سلطة اللواء سليماني» . وطالب الثلاثي «كل الأطراف بالعمل بمسؤولية على ضبط النفس. لا بد من إيقاف حلقة العنف الحالية في العراق». فرنسا وألمانيا وبريطانيا هي الدول العظمى الأوروبية التي تحدد عادة الموقف العام في القارة التي أصبحت منشغلة من مسألتين أساسيتين: الخوف من القنبلة الإيرانية بتحرر إيران من التزاماتها تجاه الاتفاق النووي وتخصيب اليورانيوم فوق سقف 20 % الذي يسمح لطهران بصنع القنبلة النووية من جهة أخرى، رجوع تنظيم داعش للساحة العراقية السورية مع كل سلبيات الوضع على أوروبا.
واصطفت المفوضية الأوروبية مع القرار الأوروبي المعلن وعبرت رئيستها أورسولا فان درلاين عن نفس الموقف وكذلك وزير خارجيتها. ومررت الدول الأوروبية موقفها في اجتماع وزراء خارجية منظمة الحلف الأطلسي. و حاول الوفد الأمريكي تهدئة الوضع أمام المعارضة الشرسة المعلنة للتصعيد الأمريكي من قبل الأوروبيين. ولم يمنع ذلك منظمة الناتو من «تجميد» عملياتها ضد «داعش» في العراق تماشيا مع قرار الولايات المتحدة الأمريكية التي ترأس التحالف الدولي بوقف العمليات من أجل «حماية القواعد العراقية التي تحتضن قواتها». وهو الملف الثاني الذي يقلق القادة الأوروبيين. و إن كرر مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي في وسائل الإعلام في واشنطن أن الولايات المتحدة لا تنوي التصعيد فإن العواصم الأوروبية لا تزال تحت خشية انزلاق منطقة الشرق الأوسط نحو حرب أخرى خاصة و أنها لا تعرف مستوى الرد الإيراني المحتمل و لا عزم الرئيس الأمريكي على تنفيذ تهديداتها الجديدة بضرب المواقع الثقافية الإيرانية.
تحركات أوروبية على المستوى الدولي
وتحركت كذلك الدبلوماسية الأوروبية تجاه روسيا والصين، الحليفين في الملف النووي الإيراني. وعبر الوزير الأول الصيني في مكالمة مع الرئيس الفرنسي عن تنديد الصين ب «المغامرة العسكرية» الأمريكية واعتبر أن «اللجوء الأحادي الجانب إلى استخدام القوة لا يحل المشاكل. وهو غير مجد و يؤدي على حلقة مفرغة من المصادمات يصعب إيقافها لاحقا». و أكد المسؤول الصيني عن «ضرورة ألا تؤثر الهجمة الأمريكية على تطبيق الاتفاق النووي الإيراني».
أما الجانب الروسي فقد اعتبر على لسان وزير الخارجية سرغاي لافروف أن مقتل قاسم سليماني هو «خرق واضح للقانون الدولي» وأن «التصرف الأمريكي غير قانوني لا بد من إدانته». وقررت إثر ذلك موسكو طلب انعقاد مجلس الأمن. و لم يمنع ذلك السلطات الأمريكية، بالرغم من العرف الدبلوماسي المتبع، من رفض تأشيرة دخول لوزير خارجية إيران جواد ظريف في خطوة استفزازية أخرى تشير إلى عمق الخلاف بين القوى العظمى.
منطق الحرب
الموقف الأمريكي تجاه إيران ليس بالجديد. وشهدت العراق و سوريا منذ سنتين مناوشات عديدة بين إيران والقوات الأمريكية. و أدت الأزمة بين البلدين إلى الهجوم على حاملتي نفط في خليج عمان و إسقاط طهران طائرة أمريكية بدون طيار ( «درون») و رد مماثل للقوات الأمريكية يليه قصف موقع بترولي سعودي اعتبرته واشنطن عملا إيرانيا.
وكانت الأزمة الأمريكية الإيرانية محل نقاش في صلب الهياكل الأوروبية و الدولية منذ الربيع الماضي. و حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على هامش اجتماع الدول السبعة المصنعة في مدينة بياريتز خلال الصيف إبرام صفقة دبلوماسية بين طهران و واشنطن باستضافة وزير خارجية إيران، على هامش القمة، بأمل أن يقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبول مبدأ التفاوض مع إيران، لكنه لم يفلح في إيقاف التوجه نحو الصدام والحرب. واعتبر جل المحللين العسكريين في أوروبا أن مقتل قاسم سليماني، وهو مسؤول سام في الدولة الإيرانية، «عملا حربيا» مما يدخل المنطقة في منطق الحرب.
و يأتي مقتل اللواء سليماني بعد سلسلة من «الوقائع» بين القوات الأمريكية المرابطة في العراق و القوات الإيرانية تحت لواء فيلق القدس. و جاء قصف اللواء سليماني يومين بعد الهجوم على السفارة الأمريكية في طهران إثر موكب دفن 25 مقاتلا من كتائب حزب الله الذين قتلوا إثر قصف أمريكي يوم الأحد 29 ديسمبر 2019. و كان ذلك ردا أمريكيا على مقتل متعاون عسكري مع القوات الأمريكية بضربة صاروخية نسبت لميليشيات مساندة لإيران. وسجلت واشنطن 13 هجمة صاروخية ضد قواتها وقواعدها العسكرية في العراق نسبتها لمليشيات تتعامل مع القوات الإيرانية.
وحدثت كل هذه الوقائع بين القوات الأمريكية والمليشيات الإيرانية في حين نظمت إيران ابتداء من 27 ديسمبر مناورات عسكرية بحرية بين القوات الإيرانية والروسية و الصينية في المحيط الهندي وبحر عمان في خطوة اعتبرتها واشنطن استفزازا وتهديدا لنفوذها في المنطقة. وشاركت في المناورات، إلى جانب البواخر والغواصات الإيرانية، ثلاث بواخر روسية وباخرة صينية حاملة لصواريخ موجهة إلكترونيا. تحرك هذه القوات في بحر عمان الذي يضمن مرور خمس النفط العالمي عبر مضيق هرمز فهمه البنتاغون رسالة موجهة إلى واشنطن حول كسر بوابة الخليج العربي- الفارسي.
قوات أمريكية ضخمة
تحسبا لأي تطورات عسكرية قررت السلطات الفرنسية وضع قواتها المرابطة في القاعدة 104 في دولة الإمارات العربية المتحدة في حالة تأهب في حين قرر بوريس جونسون تكليف الباخرة الحربية «مونتروز» والباخرة «ديفندر» المضادة للغواصات مراقبة مدخل مضيق هرمز. وعبر وزير الدفاع البريطاني بان ولاص عن حرصه «اتخاذ كل الخطى اللازمة لحماية بواخرنا ومواطنينا» علما وأن لندن ساندت بكل وضوح القصف الأمريكي ضد سليماني. الوزير ولاص اعتبر أن «اللواء كان مهندس استخدام الكتائب الموالية لإيران من أجل تدمير البلدان المجاورة ومحاربة أعدا إيران».
لكن إمكانية اندلاع حرب لا تشكل فيها البلدان الأوروبية أي وزن بالرغم من تواجد عدد من جيوشها في المنطقة. الوزن الأساسي يرجع للأسطول الخامس للقوات الأمريكية المرابطة في قاعدتين بالبحرين التي تضم 15 ألف جندي و6 بواخر حربية من بينها حاملتا الطائرات «أبراهام لينكلن» و«آر وينغ 7» وحاملة المروحيات «يو أس أس بوكسر». وتتمتع الولايات المتحدة الأمريكية بقاعدة عسكرية ضخمة في الكويت أين قرر الرئيس دونالد ترامب إرسال 3500 جندي إضافي هذا الأسبوع. ويمكن للقوات الأمريكية ، في حالة اندلاع حرب مفتوحة، نقل بواخرها الحربية التابعة للأسطول السادس في البحر الأبيض المتوسط واستخدام قواعد منظمة الحلف الأطلسي وخاصة القواعد 43 التابعة لها في إيطاليا.
في المقابل تتمتع إيران بقدرات عسكرية لا يستهان بها في مقدمتها بواخر حربية وغواصات وصواريخ بالستية متطورة قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بالبواخر الأمريكية. وذكرت الصحف الإيطالية المتابعة للأزمة بين الطرفين أن من بين الأهداف ال52 التي ذكرها الرئيس ترامب في تدوينته توجد مواقع نووية إيرانية تستغلها طهران لتخصيب اليورانيوم ولتطوير قدراتها التكنولوجية.
لكن، في آخر المطاف، مع تواجد إيران مباشرة أو عبر قوات موالية لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن لا يمكن لمنطق الحرب أن يسود بدون دخول الكيان الصهيوني ودول الخليج العربي في المعركة وبدون أن يكون لموسكو، التي تتمتع بقدرات عسكرية في سوريا، موقعا على أرض النزاع و لو أن جل الخبراء العسكريين يعتقدون أن مصلحة روسيا ليست في اندلاع الحرب . لكن اندلاع حرب شاملة في المنطقة – ولو هو فرضية بعيدة التحقيق - سوف يخدمها مباشرة ولو لم تشارك فيها ويكون وخيما على الدول الأوروبية التي ليس لها القدرات العسكرية التي تمكنها من فرض إرادتها على الساحة الدولية.