لقد تحدثنا في مرّات سابقة عن السياقات السياسية والإجرائية التي أوصلتنا إلى هذه النسخة وعلى النهج الانفرادي الذي قادها إلى التخلي حتى عن مقترح «اللجنة الوطنية الاستشارية»، ولكننا اليوم أمام نص نهائي، ولو بأخطائه اللغوية وبالتكرار الركيك الناجم عن غياب مراجعة دقيقة له .. نص لم ينشأ من إرادة جماعية رغم ادعائه تمثلها وتمثيلها ..
نقترح عليكم في هذه الحلقات قراءة في الأسس الفكرية والسياسية والحقيقة التي تأسس عليها مشروع الدستور هذا.
• إعادة كتابة تاريخ تونس:
لطالما أكد لنا مهندسو «اللجنة الوطنية الاستشارية» أن توطئة مشروع الدستور ستكون مقتضبة وخالية من الانشائيات التي طغت على دستور 2014.. ولكن المشروع المنشور بالرائد الرسمي جاء على عكس هذه التمنيات فجاءت التوطئة مطولة ومشحونة بالانشائيات وبالسرديات الوهمية ..
نجد في التوطئة محاولة لإعادة كتابة تاريخ تونس الحديث انطلاقا من الحركة الإصلاحية في أواسط القرن التاسع عشر إلى حدّ اليوم ..
منذ البداية تم الإلغاء «النهائي» لتاريخ 14 جانفي 2011، فالثورة أو «الصعود الشاهق غير المسبوق في التاريخ» انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 ضد «التجويع والتنكيل في كل مرافق الحياة» لكننا لا نجد ولو كلمة واحدة عن التحول السياسي الجذري الذي حصل يوم 14 جانفي وعن كامل المسار الذي لحقه والذي لخصته التوطئة فقط في «الشعارات الزائفة» و«الوعود الكاذبة» واستفحال الفساد وتفاقم الاستيلاء على ثرواتنا الطبيعية لذلك كان 25 جويلية تصحيحا لمسار الثورة بل لمسار التاريخ (هكذا !!).
ثم عندما تذكر التوطئة التجربة الدستورية لبلادنا فهي تنطلق من دستور قرطاج وتمرّ على هذا «الزمام الأحمر» في بداية القرن السابع عشر المعتبر من «بين أهم النصوص الدستورية» فعهد الأمان وقانون الدولة التونسية لسنة 1861 ولكن لا وجود في هذا السياق الدستوري لا لدستور 1959 ولا لدستور 2014 رغم أن أكثر من ثلث فصول هذا المشروع منقولة – مع صياغة مختلفة أحيانا – من دستور 2014.
إذن بعد عصر الظلمات جاءت حركة تصحيح التاريخ ثم عبّر الشعب عن اختياراته الكبرى في الاستشارة الوطنية (هكذا !!) فكان هذا الدستور الذي سيحقق «العدل والحرية والكرامة».
نحن إزاء قراءة اختزالية لا تؤمن بالتراكم ولا تؤمن بالتاريخ والحداثة ما دامت تضع وثيقة كتبت في بداية القرن السابع عشر أي قبل كل المفاهيم الحديثة للدولة وللمؤسسات وللديمقراطية، فوق دستوري 1959 و2014 اللذين تريد إزالتهما من التاريخ الحديث لتونس.
• الدين والأمة خارج سياق التاريخ:
الأمة مفهوم محوري في هذا المشروع ولكننا لا نجد أي تعريف لها بل قد يكون الأخطر في كل هذا أن تونس لا تعتبر أمة بل هي دوما جزء من أمة أخرى ..
ففي التوطئة نجد تأكيدا على انتمائنا نحن -الشعب التونسي– للأمة العربية، وتؤكد هذه الفكرة مرّة أخرى في الباب الأول (أحكام عامة) في الفصل السادس «تونس جزء من الأمة العربية» وتونس أيضا «جزء من الأمة الإسلامية». وفق منطوق الفصل الخامس، وبعد ذلك تكون «الجمهورية التونسية» في الفصل السابع «جزءا من المغرب العربي الكبير»..
فتونس دوما جزء من أمة أخرى أو من مجموعة جغرافية أخرى ولا تعرف مطلقا بكونها أمّة في حدّ ذاتها بما يعني أن هويتها هي دوما خارجة عن كيانها التاريخي..
صحيح أن دستوري 1959 و2014 لم يقرا بوضوح بوجود أمة تونسية ولكننا – نجد في دستور 1959 أن البرلمان يسمى «مجلس الأمة» بما يفيد قطعا أننا نتحدث عن أمة تونسية في حين ظلّ هذا المفهوم غائبا في دستور 2014 رغم هذا تتحدث توطئة دستور 2014 عن انتمائنا الثقافي والحضاري للأمة العربية والإسلامية لا عن كوننا جزءا من هاتين الأمتين المنفصلتين في مشروع دستور «الجمهورية الجديدة».
إن إنكار وجود أمة تونسية بحد ذاتها مرده الوحيد إنكار كل الأبعاد غير العربية وغير الإسلامية في هويتنا الوطنية وهي في النهاية إنكار للبصمة الأساسية للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي جعل من الأمة التونسية المحور الأساسي للفكر والعمل عنده.
وتأتي الفقرة الأخطر في هذا السياق والتي نجدها كالتالي في الفصل الخامس «تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية» يبدو أن المشكلة الرئيسية للفكر المؤسس لهذا المشروع ليست مع الإسلام السياسي كمشروع إيديولوجي بل مع الخوصصة الحزبية لهذا المشروع الإيديولوجي ..
لقد سوّق لنا مهندسو «اللجنة الاستشارية» أن الدستور الجديد سيحذف كل إشارة للدين وكل تمييز على أساسه وعلامة ذلك حذف «الإسلام دينها» من الفصل الأول، ولكن النتيجة كانت كارثية إذا انتقلنا من فصل تواضع عليه التونسيون في 1959 وفي 2014 كذلك إلى إيجاب «العمل على تحقيق مقاصد الإسلام» على الدولة ..
بداية «مقاصد الإسلام» في هذه الصياغة هي ذاتها «مقاصد الشريعة» كما عرفها الشاطبي (من علماء الأندلس في القرن الرابع عشر ميلادي) في كتابه الشهير «الموافقات في أصول الشريعة» والذي أشار إليه رئيس الجمهورية منذ أيام قليلة عندما ذهب إلى مطار الحجيج حيث نوه إلى أن هذا الكتاب قد طبع لأول مرة في تونس في نهاية القرن التاسع عشر.
الشاطبي كسائر الفقهاء القدامى، يتحدث عن الكليات الخمس باعتبارها مقاصد الشريعة وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ العرض وحفظ المال ..
أما في الفصل الخامس لهذا المشروع فنجد حذف حفظ العقل (لماذا ؟!) وتعويضه حفظ الحرية باعتبار أن ذلك من إضافة المدرسة التونسية تحديدا من قبل الشيخ محمد الخضر الحسين في محاضرة ألقاها سنة 1906 بنادي «جمعية قدماء تلامذة الصادقية» كما صرّح بذلك رئيس الدولة منذ أيام قليلة بمناسبة نفس الزيارة التي تحدثنا عنها آنفا.
عندما نعود إلى هذه المحاضرة (الجزء الرابع من الأعمال الكاملة للخضر الحسين، دار النوادر بيروت 2010) نجد أننا أمام تعريف تقليدي للحرية فهي ولاشك تعبير عن استقلال الإرادة ولكن وفق الحدود التي تضبطها الشريعة.
هذا الفصل الخامس يسمح بلا شك باستعادة كل التراث الفقهي الإسلامي التقليدي من جهة كما أنه يوجه المشرع غدا إلى سن قوانين محافظة بل ورجعية تمس من الحريات الفردية خاصة بتعلة «العمل على تحقيق مقاصد الإسلام».
ثم إذا كنا ننقد دستور 2014 في فصله السادس الذي يضع جنبا إلى جنب حرية المعتقد والضمير مع رعاية الدين فكيف سنوفق بين الفصل 27 «تضمن الدولة حرية المعتقد وحرية الضمير» وبين الفصل الخامس الذي ينص بوضوح على إلزام الدولة بالعمل على حفظ الدين ؟:
نحن في الحقيقة أمام دولنة (étatisation) لمشروع الإسلام السياسي كما هو الحال في بداياته الأولى وضع الشريعة فوق النصوص الوضعية واعتبارها المصدر الأساسي للتشريع ومراجعة القوانين السابقة الوضع وفق منطوقها.
نحن لا نقول أن هذا ما سيحصل فعلا ولكن هذا الفصل الخامس فتح طريقا سيارة لإيديولوجية الإسلام السياسي المدولنة سواء أتحقق ذلك اليوم أو غدا.
(يتبع )
الحلقة الثانية:
من رئيس الدولة إلى دولة الرئيس