ونعتمد في ذلك على نصوص مقدسة واخرى ماثورة لنبرهن بذلك عن أصالة مفهوم المساواة في حضارتنا.
في الحقيقة ما يبدو لنا اليوم بديهيا لم يكن كذلك لا في حضارتنا فحسب بل في كل حضارات الدنيا.
البداهة في العالم القديم ان الناس ليسوا سواسية وان هنالك فروقا طبيعية بينهم لا يمكن بحال فسخها وتبعا لذلك تتأسس على هذه الفروق حقوق وواجبات مختلفة ..
العالم القديم - بما في ذلك الحضارة الاسلامية - كان يتاسس على التمييز بالجوهر بين البشر تذكر هنا منها ثلاثة هي الاكثر انتشارا لا فقط في العالم القديم بل ونجد اثارها الى اليوم.
• التمييز الجندري بين الذكر والانثى
• التمييز بين الحر والعبد
• التمييز بين المسلم وغير المسلم، والمقصودون هنا أهل الذمة (أهل الكتاب) كما كانوا يسمون في تاريخنا القديم ..
نحن هنا أمام تصور سائد في كل بقاع الدنيا،مع إضافة أشكال خاصة من التمييز في كل ثقافة،وهذا التمييز يبدو طبيعيا بالنسبة لانسان العالم القديم حتى عندما يكون متضررا منه وحتى بعض الثورات التي تحصل هنا وهنالك تحصل ضد التمييز المجحف (كثورات العبيد مثلا) لا ضد فكرة التمييز في حد ذاتها ..
هذه التراتبية الهرمية في المجتمع كانت تتناسق مع ما كان يعتقد أنه تراتبية أنطولوجية بين العوالم العليا والعالم السفلى، عالم الكون والفساد أي عالم حياتنا الأرضية.
فكرة المساواة بين البشر بغض النظر عن الجنس واللون والدين والثقافة لم تكن بديهية لاسيما وأن المساواة كمفهوم لم يكن لها من وجود في حقيقة التجربة البشرية لذا افترض فلاسفة الانوار وضعية شبه ميثولوجية اطلقوا عليها «حالة الطبيعة» (l’état de nature ) أي حالة ما قبل الدولة والانتظام الاجتماعي، حالة خطرة يصفها بعضهم بانها حرب الكل ضد الكل ولكنها في كل الاحوال حالة يتساوى فيها البشر مهما كانت الفروقات الجسمانية أو الذهنية بينهم.
أهمية مفهوم المساواة لا تكمن فقط من الناحية الفلسفية بل نراه يتجسد في كل الدساتير واامواثيق الدولية الحديثة وهو الاساس الذي انبنت عليه فكرة حقوق الانسان والتي منها انحدرت كل اجيال الحقوق المدنية والاجتماعية والثقافية.
لاشك ان العالم القديم قد انهزم ولكنه لم يلق سلاحه وبقي متشبثا بخصوصية وهمية تسمح له بانتقاد فكرة المساواة وبالحد من مجالات تطبيقها خاصة عندما يتعلق الأمر بالمساواة بين الجنسين في ربوعنا او بالمساواة بين المواطنين الأصليين والمهاجرين الوافدين عند الحركات اليمينية الشعبوية في دول الشمال.
والغريب أن كل حضارات العالم القديم كانت تؤمن بفكرة العدل وتعلي من قيمتها،والعدل هنا هو نقيض المساواة وهو يعني فقط وفي كل الأحوال المعاملة الحسنة لمن هم في وضعية دونية كالمراة والعبد والذمي..
العدل في العالم القديم هو الايمان بسمفونية التراتبية الهرمية في الكون وفي المجتمع..
والعدل عندما يُستحضر اليوم ضد المساواة انما يحصل ذلك للإبقاء على بعض التشريعات التمييزية ضد النساء وغير المسلمين فتلك هي وظيفته لا غير..
لئن كان العدل الرافض للمساوة تعبيرا جديدا على التمييز القديم إلا أن العدل القائم على أرضية المساواة انما هو دعوة للتطبيق الفعلي للمساواة على أرض الواقع.
العالم القديم هو عالم الامتيازات في الحقوق والواجبات والعالم الجديد يقوم على رفض هذه الامتيازات ولكنه مع ذلك يسمح بتواجدها كتعبير عن مجازاة الجهد والعمل ثم يسمح بتراكمها الى ان تصبح امتيازات متوارثة وقد تصل إلى إفراغ مفهوم المساواة من كل مضمون جدي..
وحده النقاش على هذه القاعدة جدي لانه يهدف الى المساواة الفعلية في النصوص وفي الواقع لا بمعنى ان يتساوى الناس في الدخل والاجر فهذه طوبا مستحيلة ولكن ان تكون الحظوظ متساوية فعلا امام الجميع والا تكون الفروق بينهم مؤسسة على امتيازات سابقة بل تتعلق أساسا بالجدارة الفردية لكل شخص.
العدل هنا يصبح انصافا (l’équité ) اي العمل على التنزيل المستمر لفكرة المساواة والمساواة الفعلية في الفرص وذلك بتعليم جيد لكل الناس وبخدمات صحية ومرافق عمومية ونظم تمويل وتشجيع وتمييز إيجابي للفئات وللجهات الأقل حظا والهدف دوما ان محرك الحياة الأساسية هو المساواة في الحقوق وكذلك المساواة في التكوين والمساواة في الفرص.
لنقلها بوضوح: عندما يدخل مفهوم المساواة الى ترسانتنا القانونية تخرج منها كل القوانين التمييزية التي تدثرت مدة عقود وقرون بالمسموحات الدينية،ولذلك ترفض كل القوى الموغلة في المحافظة هذا المفهوم الثوري لانه يهدم كل امتيازاتها المادية والمعنوية المتوهمة.
يتبع
• في عدد قادم:
III - الدين والتدين في مجتمع ديمقراطي