فالمفاهيم النظرية أو المقولات هي بناء ذهني ضروري لمعرفة الواقع لأنها هي وحدها التي تسمح بالتحليل (أي إرجاع أمر ما إلى مكوناته الأولى البسيطة) والتأليف (أي تركيب هذه المكونات البسيطة) ولكنها تبقى بناء ذهنيا يقرّب إلينا الواقع ولا يعوضه .. أما الإيديولوجيا فإنها ولئن انحدرت من كلمة «فكرة» (idée) واستعملت أيضا بعض المفاهيم والمقولات النظرية إلا أنها نظام نسقي مغلق على ذاته وعلى تطور المعارف والعلوم ولا يجد تبريره إلا من داخله والواقع الحي بالنسبة له إنما هو مجال لتطبيق الإيديولوجيا لا لاختبارها وتعديلها وتغييرها إذا لزم الأمر ..
لاشك أن من يريد تغيير واقع ما لابدّ له من الانطلاق من تصورات ذهنية ما ،ولكن يوجد فرق شاسع من أن تنبع هذه التصورات من معرفة خبرية تجريبية أو من عقائد في انقطاع تام عن العلم والمعرفة .
يوم أول أمس ومن خلال الدقائق المصورة للقاء الرئيس الجمهورية برفيق دربه رضا شهاب المكي -شهر منذ أيام الجامعة بلينين- يؤكد لنا بصفة كبيرة أن رئيس الدولة حامل لتصور إيديولوجي هلامي وان همّه الأساسي هو أن يجد هذا التصور منفذا لتطبيقه في الواقع .
والذي تستنتجه أيضا من هذا اللقاء أن قضاء 19 شهرا في الرئاسة لم يغيّر شيئا من فهم الواقع عند رئيس الدولة لأن هاجسه الأساسي لا يكمن في الارتقاء بالواقع الملموس بل بفرض هندسة للحكم يعتقد أنها هي المدخل الوحيد للرقي الجماعي ..
كلّما استغرق ذهن المرء في الايدولوجيا كلما غابت عنه تناقضاته الداخلية الصارخة،فالقول مثلا أن الشباب هو صاحب المشاريع وانه على الدولة فقط توفير الإطار القانوني لذلك،فلِم لم ينتج عن هذه الفكرة ترشح مكثف للانتخابات التشريعية السابقة ؟ لِم اختار قيس سعيد الترشح للرئاسة والحال انه يعلم أن التشريع بيد مجلس نواب الشعب؟ الجواب، عندنا، سهل لأن المشروع الإيديولوجي لقيس سعيد لم يبلغ مستوى من النضج يجعله قادرا على مقارعة بقية الأحزاب والقائمات، فاختار الانتخابات الأكثر ملاءمة له فقط لا غير.
كما أن قيس سعيد وبعد قضائه لثلث عهدته الأولى لا يرى التناقض الصارخ بين مشروعه الأصلي المتمثل في لا مركزية مفرطة لتشخيص المشاكل واقتراح الحلول وبين المركزية المغالية التي يريد فرضها بالأمر الواقع من موقعه كرئيس للجمهورية ..
لاشك أن لكل جهة ومنطقة خصوصيات وعوائق وفرص ولكن هل يمكن لعاقل واحد أن يرى أن المشاكل الأساسية للبلاد (التربية والتكوين والصحة والمرافق العمومية وإصلاح الدولة والنهوض بالاقتصاد والتنمية المتوازنة...) هي مشاكل محلية ؟ وهل يمكن لحاكم أن يحكم البلاد أو أن يحلُم بحكمها دون أن تكون لديه تصورات دقيقة لسبل الإصلاح ولضرورة الانسجام بين كل هذه المسارات وضبط الأولويات وفق إمكانيات البلاد وتطورها المستقبلي؟
هي يمكن أن نحكم البلاد بترديد القول أن البرامج عند الشباب أو المواطنين ؟ فإذا كان الأمر كذلك فأين هي البرامج بعد 19 شهرا من الحكم ؟ ولمِ لا يردد رئيس الدولة لكل من يلتقيهم سوى «مشروعين» اثنين: مدينة الأغالبة الصحية والقطار السريع من بنزرت إلى الجنوب ؟ وحتى في هاتين الحالتين لا نعلم إلى حدّ الآن ما حجم الاستثمارات الإجمالي ومن سيستثمر فيهما ووفق أية علاقة بالدولة..
بالإمكان التخفي وراء الأعداء الحقيقيين أو الوهميين وبالإمكان تكرار أن العراقيل متأتية من الفاسدين المتآمرين ولكن عندما لا نرى بعد انقضاء ثلث العهدة أية أفكار جدية حول إصلاح تونس والنهوض بها وان النشاط الرئاسي الأساسي هو في تعطيل بقية مؤسسات الدولة على علاتها وان الولاء للوطن يرتبط عنده بالولاء لشخصه ولأفكاره لا يمكن إلا أن نعبر عن خيبة أمل كبيرة إذ اعتقدنا – بين كثيرين– أن انتخاب قيس سعيد كان فرصة لتونس لتتخلص من الزبونية الحزبية الفاشلة ومن استعمال السلطة لخدمة مصالح فئوية وللحماية المتبادلة ..لقد اعتقدنا أن الزخم الشعبي الكبير الذي حمل قيس سعيد إلى قرطاج سيسمح له بتوجيه كل الطاقات نحو العمل والبناء والإصلاح ولكن وجدنا أنفسنا بعد مضي ثلث هذه العهدة بين طبقة سياسية تتنازعها الأطماع والأحقاد ورئيس جمهورية يحكم بالسلب وواقع تحت تأثير إيديولوجيا هائمة وأوضاع البلاد تزداد سوءا من يوم إلى آخر ..
اليوم كل حكام البلاد – بالمعنى العام والواسع للكلمة – جزء من المشكل ، أما الحلّ فلا أفق له ..
بعد استقباله لرفيق دربه «رضا لينين» قيس سعيّد ومخاطر الإيديولوجيا الهائمة
- بقلم زياد كريشان
- 09:34 25/06/2021
- 1276 عدد المشاهدات
يقول فيلسوف الإغريق العظيم أرسطو «لا علم إلا بالكلي ولا وجود إلا للعيني».
لو ترجمنا هذه المقولة بعباراتنا العادية لقلنا أن معرفة الواقع تحتاج إلى مفاهيم نظرية ( الكلي) ولكن هذه المعرفة لا تعوض الواقع (العيني )