التاريخ يعيد نفسه .. قيس سعيّد والمنعرج الخطير

يروى عن الإمام علي بن أبي طالب في معرض رده على احتجاج جزء من جنده في حادثة التحكيم والذين قالوا له أنه حكّم الرجال في القرآن (هؤلاء الذين سيُسمون في ما بعد الخوارج)

فكان ردّه التالي: «هذا القرآن إنما هو خطّ مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان».

نعيش اليوم في تونس شيئا شبيها بهذا في تأويل الدستور ..فالدستور لا ينطق بلسان، أي أن مجرّد الاستشهاد ببعض فصوله (دون بعض بطبيعة الحال) إنما هو تأويل له ونطق يقول لا ما في الدستور بل ما في صدر قائله خاصة وأن الهيئة الوحيدة التي أناط بها الدستور القيام بهذه المهمة ،وهي المحكمة الدستورية،لا ولن ترى النور ما دام قيس سعيد رئيسا للجمهورية.

الخطاب الثاني لرئيس الدولة يوم الأحد الفارط بمناسبة إحياء الذكرى 65 لتونسة الأمن الوطني أراده لحظة فاصلة في عهدته الانتخابية هذه .

أراد رئيس الدولة أن يؤسس بصفة نهائية لأمر سبق له أن بشر به وهو انه، وبمعنى الدستور، القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية على حدّ سواء ودليله يوم الأحد الماضي أن دستور 2014، على عكس دستور 1959،لم يَفْصِل ولَمْ يُفصِّل إذ قال في الفصل 77 منه أن رئيس الدولة يتولى «القيادة العليا للقوات المسلحة» كما أنه بيّن في الفصل الموالي (78) أن رئيس الدولة يتولى بأوامر رئاسية «التعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والديبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي (...)» وعليه وبناء على هذين الفصلين يكون رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية كذلك .

واضح هنا أننا أمام قراءة تخالف فصولا صريحة في الدستور جاءت في الباب الأول تحت مسمى المبادئ العامة،فنحن نجد في الفصل 17 ما يلي : «تحتكر الدولة إنشاء القوات المسلحة،وقوات الأمن الداخلي ،ويكون ذلك بمقتضى القانون ولخدمة الصالح العام» هنا كما ترون فصل الدستور بين القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي بما يفيد أن القوات المسلحة بالنسبة للمؤسستين تعني بصفة حصرية القوات العسكرية،ويزداد هذا المعنى وضوحا في الفصلين المتتاليين الثامن عشر والتاسع عشر الأول مخصص للجيش الوطني والذي يصفه بكونه «قوة عسكرية مسلحة» فيما خصص الثاني للأمن الوطني والذي قال عنه فقط انه «أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد..» ولم يستعمل هذا الفصل مطلقا مصطلح «قوات مسلحة» بما يزيد تأكيد أن الدستور لا يطلق هذه التسمية إلا على القوات العسكرية..والغريب هنا أن رئيس الدولة قد لجأ إلى دستور 1959 والى القانون المنظم لقوات الأمن الداخلي والى مجلة الالتزامات والعقود ولم يتعرض بالمرة للفصول 17 و18 و19 من دستور 2014 بما يفيد أننا في أحسن الأحوال أمام قراءة انتقائية المقصود منها تأكيد رأي قبلي لا تأويلا متكاملا للدستور .

ولعل أخطر ما في الخطاب الثاني لرئيس الدولة هو اعتباره أحد قوانين البلاد ،وهو القانون المنظم للتعيينات في المناصب العليا،بأنه غير دستوري إذ أوكل التعيينات الأمنية إلى رئيس الحكومة .

والحال أن رئيس الدولة بمقتضى قسمه الذي أصبح به رئيسا فعليا للدولة مجبور على احترام الدستور والتشريع كذلك كما ينص على ذلك بوضوح الفصل 76 «وأن احترم دستورها وتشريعها» أما القول بأنني لن اعمل بقانون ما لأنني اعتبره غير دستوري يعد خطوة أخرى غريبة تضع القوانين التي لا تروق لرئيس الدولة بين قوسين.
إذن فالرئيس هو المسؤول النهائي عن الدستور وهو يعتبر انه لا وجود لصلاحيات مقيدة كمسألة أداء اليمين أو ختم القوانين ،فكل صلاحياته مطلقة ومُؤَسّسة لأفعال لا يمكن لأحد أن يردها.. ثم يضيف إلى كل ذلك إمكانية وضع أي قانون بين قوسين وتعطيل العمل به بل والعمل عكس ما ينص عليه ..

هل سيقف رئيس الدولة عند هذا الحدّ ؟

بالطبع لا، فإستراتيجيته الهادفة إلى تقويض منظومة الحكم من داخلها (باستثناء رئاسة الجمهورية) سوف تتواصل بالقول بداية بأن يعتبر أن كل الوظائف السامية في وزارة الداخلية تعود إليه كتعيين وإعفاء الولاة مثلا ثم أن يقر بأن قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والثقافة والطاقة والنقل والصناعة.. أنها كلها تدخل تحت مسمى الأمن القومي وبالتالي تصبح التسميات والإعفاءات فيها حكرا على رئيس الدولة ..

وهذا التوسع في الصلاحيات على مستوى القول يهدف أساسا إلى إنضاج العقول لتقبل صلاحيات التوسع على مستوى الفعل كإقالة وال وتسمية غيره .. أو، وهذا الأخطر، أن تلتحق أجهزة مختلفة من الدولة وتضع نفسها تحت ولاية رئيس الجمهورية .

والواضح هنا أن قيس سعيد يستغل أحسن استغلال النقمة الشعبية الكبيرة على البرلمان وعلى منظومة الأحزاب وبدرجة اقل على الحكومة الحالية ليمر إلى السرعة القصوى وليضيق الخناق على الأغلبية الحالية وهو متأكد أن كل الناقمين عليها سيصفقون له ولن يعترضوا على تأويلاته الغريبة للدستور إذ يعتقد بعضهم أن التخلص من الإسلام السياسي يبرر كل شيء بما في ذلك المخاطرة بالانتقال الديمقراطي والتهديد الجدي للتوازن الهش بين السلط ..

أخطر ما في هذا الوضع الغريب الذي تمر به البلاد أن يتخذ صراع أجنحة السلطة شكل الصراع من أجل البقاء دون ضوابط أو قيود وأن يغالي كل طرف في صلاحياته القانونية أو الفعلية وان تكون النتيجة تعطيلا كليا لكل دواليب الدولة وان تصبح البلاد أمام اختيارين لا ثالث لهما: الفوضى العارمة أو العصا الغليظة والاستبداد، وعندها لن ينفع كل تموقع مصلحي وكلّ تكتيك سياسوي .. فالاستبداد في حاجة إلى أدوات حتى يتمكن من كل مواقع السلطة ثم بعد ذلك تعرف الأدوات نفس مصير الخصوم ..
الاستبداد لن يعود في البلاد بواسطة انقلاب عسكري بل بمفعول الحسابات السياسوية الخاطئة لأهل الحكم والمعارضة على حدّ سواء.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115