الجمالية أو المشهدية للصور والفيديوهات، بل يتجاوزها إلى ما يعتبرونه العنصر الأساسي في نجاح مصر وهم الحكم القوي وإقصاء الإخوان والوأد (المؤقت ؟) للديمقراطية،وفي المقابل انتقال ديمقراطي كرّس حكم الأحزاب وخرّب البلاد.
هنالك عدة عناصر ساهمت في تركيز صورة سينة عن الانتقال الديمقراطي في تونس : استشراء الفوضى والفساد في البلاد وصعود المخاطر الإرهابية (على الأقل في بداية التجربة) وتنامي التيارات الراديكالية التكفيرية والتراجع اللافت للخدمات العمومية ثم الصراعات الطفولية لأهم مؤسسات الدولة والانطباع بأن لا أحد قادر على تسيير البلاد وأن الصراخ والسباب المهيمنان اليوم على المشهد السياسي قد أثرا سلبا على معنويات التونسيين وجعلا أعدادا متعاظمة تطالب بوضوح بحكم قوي يضرب على أيادي العابثين ويحقق الأمن والاستقرار والحدّ الأدنى من أساسيات العيش اليومي.
صحيح أن لكل فريق سياسي هام في البلاد أنصار ومريدون (خاصة قيس سعيد والدستوري الحر وحركة النهضة) ولكن جلّ هؤلاء لم يعودوا مقتنعين بصفة قوية أن صراعاتهم يمكن حسمها في إطار ديمقراطي، كما أن جلّ التونسيين والذين لا ينتمون لجمهور أي فريق قد قرفوا من هذا الوضع المأزوم ومن ديمقراطية تفاقم المشاكل ولا تبني الحلول .
وقد أدى هذا الوضع إلى عنصر جديد وغريب في تونس: تكاثر عدد السياسيين النافذين الذين لا يدعون صراحة إلى عودة حكم العصا الغليظة ولكنهم يحقرون باستمرار المؤسسات الديمقراطية القائمة وما على المواطنين إلا إن يربطوا بسهم بين هذا النقد اللاذع للديمقراطية كممارسة عملية سيئة ولاشك في العديد من جوانبها وبين الدعوة إلى حكم فردي قوي لا يبقى من الديمقراطية سوى بعض شكلياتها ويفرغها من عمقها التعددي ومن إمكان التداول السلمي على السلطة..فنحن أمام عملية إنضاج شروط التخلص النهائي من الانتقال الديمقراطي كما شهدته بلادنا بحلوه ومره والانتقال به عبر آليات لم تتضح بعد إلى حكم الزعيم الملهم والمنقذ الفذ للبلاد من براثن الفاسدين.
ومن مفارقات هذا الوضع الغريب أن كل من يدافع عن الانتقال الديمقراطي يصنّف في خانة المدافعين عن المنظومة الحزبية الفاسدة وعن امتيازاتها غير المستحقة بما يحدث نوعا من الإرهاب الفكري ومن تراجع واضح لأنصار الفكرة الديمقراطية في البلاد ..
ولكن حتى تكتمل الصورة لا ينبغي حصر الضجر من الانتقال الديمقراطي في المنظومة الحزبية فقط بل وكذلك في ما يوصف بالفوضى المطلبية وبكثرة الحركات الاحتجاجية سواء أتبنّت هذه المطالب نقابات منظمة أو تنسيقيات غير نظامية،فالحكم القوي في ذهن أصحابه لا ينهي فقط عهد الأحزاب ولكن كذلك عهد الاحتجاج المستمر والمطلبية القطاعية وذلك بغض النظر عن شرعية المطالب ووجاهتها ..
فالمؤمل من هذا الزعيم(ة) المنتظر(ة) أن يضع حدّا للفوضى في كل جوانبها وأن يضرب بيد من حديد كل احتجاج يرتهن الدولة أو مصالح الناس ..حكم فردي قد لا يضطهد الرأي على شرط ألا يتحول هذا الرأي إلى عنصر ضغط عبر وسائل الإعلام أو إلى احتجاجات في القطاعات أو في الطرق العام ..
كل المعطيات الكمية (سبر الآراء) والكيفية تفيد بانجذاب قوي لحكم العصا الغليظة حتى تعود البلاد إلى العمل طوعا أو كرها ويبقى السؤال : من سيستفيد من هذا الانجذاب الواضح ؟ قوى وشخصيات سياسية حالية كما قد يحلم بذلك البعض ؟ أم أن الزعامات الحالية الطامحة،تلميحا لا تصريحا،إلى لعب هذا الدور غدا ستكون –هي الأخرى– حطب معركة تتجاوزها فيقتصر عملها على إنضاج هذه الثمرة ولكن دون القدرة على قطفها ؟
ما يمكننا قوله هو أن أطرافا سياسيا نافذة تلعب اليوم بالنار لان إنضاج شروط العودة إلى استبداد قد يأتي على الجميع ،وقد تكون هذه القوى من بين ضحاياه،وعندها لن تجد مؤسسات وفضاءات وإعلام للدفاع عنها وعن حقها في الوجود والتعبير ..
المعادلة سهلة إلى حد بعيد : انتقال ديمقراطي يضمن حق الجميع في الوجود أو عصا غليظة لا تميز بين الصديق والعدو ..
وتبقى مسؤولية أطراف الحكم بكل مكوناتها وكذلك أحزاب المعارضة والمنظمات الوطنية كبيرة جدّا في العمل على حدّ أدنى وطني مشترك لإيقاف النزيف وتعطيل ديناميكية الانجذاب نحو الاستبداد وتحويل الفعل السياسي إلى خدمة جدية للناس لا مجرد تطاحن على امتلاك ناصية الحكم ..
نافذة الإنقاذ مازالت موجودة ولكنها تتقلص من يوم إلى آخر وبسرعة متفاقمة .