عندما ينتفض «السيستام» ضدّ «السيستام» ...

يوصّف بعض المثقفين والنشطاء بمختلف أصنافهم المرحلة الحالية بكونها انتفاضة ضدّ «السيستام» بآلياته ومنظوماته وأفكاره البالية ..

انتفاضة يقودها شباب ونخب وأحزاب ومنظمات ضدّ أهم رموز «السيستام» : التحالف الحكومي وخاصة حركة النهضة ورئيسها من جهة ورئيس الحكومة من جهة أخرى والمنظومة الأمنية التي تسندهما إلى أن تصبح شعارات كـ«تسقط دولة البوليس» و«يسقط المشيشي» و«يسقط الغنوشي» شعارات مترادفة لأنها تشير إلى مستويات مختلفة لنفس «السيستام» ..
ولكن ما معنى «السيستام» وماهي الحقيقة التي يشير إليها ؟

لا يوجد تعريف واحد مجمع عليه لمفهوم «السيستام» على عكس مفهوم «النظـــام» (le régime) لأن النظام هو جملة الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية المهيمنة في مجتمع ما،هذا على مستوى البنية الفكرية للنظام ،أما المضمون السوسيولوجي فهو كل الطبقات والفئات المنخرطة في هذا النظام ولو كان ذلك بنسب متفاوتة.
أما «السيستام» فيشمل «النظام ويتجاوزه لأن «السيستام» لا يقتصر فقط على ما يمكن أن نسميه بـ«الهيمنة الإيديولوجية» لتحالف طبقي معيّن وفق النظرية الشهيرة لقرامشي،بل هو كل العناصر المكونة لمنظومة المنظومات والتي تعمل جميعا – حتى من موقع المعارضة بالمعنى العام للكلمة – لاستدامة»السيستام» وتجدده.

وبهذا المعنى لا يشير «السيستام» إلى منظومة حكم بعينها أو تحالف طبقي أو اجتماعي مخصوص بل إلى جملة التوافقات الإرادية أو العفوية ،الواعية منها واللاواعية والتي تسهم جميعها في خلق نظام شامل إيديولوجي واقتصادي واجتماعي له قدرة إدماج المختلف –إلى حدّ ما – بل وتوظيفه لتجديد «السيستام» واستمراريته..
ولكن مهما كانت القدرة الإدماجية لسيستام بعينه إلا أن طريقة اشتغاله تقصي ضرورة فئات من المجتمع وهي الفئات التي نصطلح عليها بالمهمشين،أي تلك الفئات التي عجز «السيستام» على إدماجها كليا أو جزئيا والتي يتطور لديها وعي بالذات بداية وهوية نهاية بهامشيتها ..
وبهذا المعنى تكون انتفاضة المهمشين دوما انتفاضة ضد «السيستام» بطريقة ما من الطرق حتى وإن وجدنا في هذه الانتفاضات دوما عناصر مرتبطة بـ«السيستام» لأن المهمشين ليسوا في قطيعة جذرية مع منظومة القيم وعلاقات الإنتاج المهيمنة ،بل هم غاضبون على موقعهم وعدم إدماجهم، أي أن انتفاضات المهمشين في جلّ الأحيان لا تريد تحطيم «السيستام» بقدر ما تريد الولوج إليه بصفة منظمة وفي مكانة اعتبارية مقبولة ..

فلو رمنا التوصيف الأكثر دقة لقلنا أن ما يميّز تونس اليوم هو انتفاضة فئات همشها «السيستام» تضاف إليها فئات من «السيستام» غير راضية على شكل الهيمنة الإيديولوجية (دوما بالمعنى القرامشي للكلمة) السائدة اليوم لاعتبارات شتى منها ما هو سياسي أو اقتصادي أو جندري أو جيلي أو قيمي أو هي انتفاضات تجمع بين أكثر من بعد ..
والإيجابي عمليا في المفهوم الغائم والعام لـ«السيستام» انه يوهم كل المنتفضين بوحدة الهدف ولكنها في الحقيقة وحدة بالمعنى السالب للكلمة،اي وحدة لها القدرة على تهرئة «السيستام» ولكن دون القدرة على توجيه كل الجهود الى نفس الهدف الموجب .

وهنا حري بنا أن نقف جيدا عند فكرة أو شعور يكرره اليوم العديد من المواطنين وهو أننا قمنا بثورة لتغيير «السيستام» وأطحنا بنظام حكم وأقمنا انتخابات وتداول على السلطة ومؤسسات.. ولكننا أبقينا على نفس «السيستام» اي في نهاية على نفس الهيمنة الإيديولوجية حتى لو تغيرت تعبيراتها الظاهرية .. ورغم المبالغة في هذا الرأي لأننا لم نعد فعلا في نفس «السيستام» حتى وإن لم نقدر بعد على تغيير هام لأكبر مكوناته، ولكن اللافت هنا هو قدرة «السيستام» على الاستيعاب و«الإدماج» قدرة زادها الانتقال الديمقراطي اتساعا ومرونة وجعل بالتالي «الخروج» الكلي عن «السيستام» أمرا طوباويا.. ولكن وفر إمكانيات جديدة لتعديل «السيستام» وذلك بإقحام أفكار جديدة من شانها إحداث التغيير في مكونات «الهيمنة الإيديولوجية» كفرض مسألة مقاومة التهميش وتبني سياسات عمومية إدماجية تربويا وتكوينيا وعمرانيا تؤدي إلى حركية اجتماعية (mobilité sociale) فعلية ..

كما أن هذه الاحتجاجات الحاملة لقيم جديدة تلتقي كلّها حول الحريات الفردية بمعناها الواسع والدفاع عن حقوق الأقليات ،كل الأقليات،هي أيضا بصدد التسلل – رغم قوة الممانعة – من هامش «السيستام» إلى مركزه– وأيضا عدم الاكتفاء بالديمقراطية التمثيلية الكلاسيكية والذهاب إلى ديمقراطية تشاركية تقحم جلّ ففئات المجتمع في اخذ القرار بصفة مستمرة لا فقط في المواعيد الانتخابية العادية، هي أيضا فكرة ستفرض حتما على «السيستام» رغم كل الفرامل التي أوجدها ..

ينبغي فقط الانتباه إلى القدرة التمويهية للسيستام اي ادعاء قبوله لهذه الإصلاحات الجوهرية ولكن ليتم تمييعها في ما بعد ولكي تبقى معادلة الهيمنة الإيديولوجية على حالها ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115