أحد أهم علامات الأزمة المعقدة والمتفاقمة التي تعيشها البلاد.
ولكن هل يضاهي شبه الإجماع هذا نظير له في تشخيص الأسباب الفعلية التي أدت إلى حالة الانسداد هذه ؟
هل يمكن أن نحمّل الائتلاف الأغلبي في البرلمان اليوم المسؤولية الوحيدة لتردي الأوضاع أم نحن أمام استراتيجيات مختلفة ومتناقضة اتفقت فقط على ارتهان السلطة التشريعية لحساباتها؟ أم أن مناخات الارتياب في الأحزاب هي التي تجعلنا نضخم المشاكل ولا نرى فيما يجري داخل قبة باردو سوى المهاترات والعنف المادي واللفظي والصبيانات؟
عندما تتوفر شروط الحكم الموضوعي على هذه العهدة النيابية بعد سنوات أو عقود قد نرى مختلف المقادير والمسؤوليات في عناصر هذه الأزمة ولكننا اليوم مطالبون بحلّ جذري لعطالة أحد أهم مؤسسات الدولة لو رمنا بصفة جدية الحلول المغامرة والقافزة على منطق الدستور والمؤسسات .
لو نظرنا إلى حوكمة البرلمان الحالي دون شحنة نفسية أو إيديولوجية لرأينا أن الإشكال الأساسي الظاهر يكمن في شخص رئيس المجلس،بغضّ النظر عن القيمة الاعتبارية للشخص وبغض النظر أيضا عن دوافع هذه الرئاسة فاشلة ..
هنالك معطى موضوعي يتجاوز الأشخاص والأحزاب وهو أن شخصية راشد الغنوشي تفتقر إلى الحدّ الأدنى من القدرة التجميعية إضافة إلى تحولها إلى عنصر أزمة مستمرة .
وفي الحقيقة لقد ساهم راشد الغنوشي بنسبة هامة في تأكيد هذا التحليل عندما أراد أن يجعل من رئاسة مجلس نواب الشعب (وهي مسألة اعتبارية شكلية لا تعطي صاحبها مسؤولية مباشرة ما في الدولة) منصة انطلاق للعب ادوار داخلية وخارجية تتجاوز كثيرا ماهو مسموح به لرئيس السلطة التشريعية ممّا أعطى لخصومه وأعدائه داخل مجلس نواب الشعب الحجج الدامغة لنقده وانتقاده بل ومحاولات عزله أيضا ..
وعندما نعلم أن شخصية رئيس النهضة لم تعد محل إجماع حتى داخل حزبه لا نستغرب إذن من اجتماع الجميع ضدّه داخل البرلمان باستثناء حلفائه المباشرين : قلب تونس وائتلاف الكرامة ..
وهذا التحالف الانتهازي بين عدوي الأمس القريب (النهضة وقلب تونس) وائتلاف يميني متطرف يذكرنا بأسوإ ما في حكم الترويكا من روابط حماية الثورة ومن السلفية التكفيرية،هذا التحالف الانتهازي هو أحد أهم أسباب الأزمة السياسية اليوم في البلاد،تحالف قائم من أجل تبادل المصالح والمنافع والحماية دون قيم ودون إي أفق سياسي وطني ممّا ينزع عن رئيسه الذي هو رئيس البرلمان كل قدرة وشرعية لإدارة مجلس النواب خاصة أمام العربدات المتكررة للجناح اليميني المتطرف لهذا التحالف ..
الحلّ الديمقراطي الوحيد إزاء هذه الوضعية هو حلّ البرلمان وإعادة الكلمة للشعب.ولكن هذا الحل مستحيل لو رمنا البقاء داخل أسوار الدستور ولا نعتقد أن من مصلحة البلاد الدخول في مغامرة خرق فاضح للدستور مهما كانت الحجج والتعلات ..ثم لو نبق على نفس النظام الانتخابي والقوانين المنظمة للحياة السياسية فذلك لن يغير من المشهد شيئا يذكر ..
هنالك حلّ وحيد لإنقاذ ما تبقى من عهدة البرلمان ولإنقاذ هذه المؤسسة الأساسية من الغرق في أتون تناقضاتها وصراعاتها التافهة هو أن يحصل اتفاق عام وشامل على إدارة هذه الأزمة بصفة مختلفة جذريا عمّا هو حاصل الآن .وهنا لابد من توفر ثلاثة عناصر تتوافق عليها كلّ (نعم كلّ) الكتل البرلمانية :
1 - استقالة راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان
2 - التوافق على شخصية من خارج الكتل المتصارعة (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة والكتلة الديمقراطية والدستوري الحرّ) لرئاسة المجلس وان تنطبق هذه الشروط أيضا على النائب(ة) الأول والنائب(ة) الثاني .
3 - التزام كل الكتل (كل الكتل فعلا) بمدونة سلوك للنائب ولسير أعمال البرلمان ولآلية فضّ النزاعات داخله حتى لا تتعطل أعمال المجلس وألا تكون الجلسات العامة حلبة للصراعات والمهاترات التفهة .
لو تم الاتفاق على هذه الخطة ،او على خطة أخرى -ولكنها تحقق نفس الأهداف- يمكن إذن أن نتصور إنقاذا ولو جزئيا للمؤسسة البرلمانية في انتظار انكباب النواب بعد هذا على إصلاح هيكلي لقوانين الانتخابات والأحزاب والجمعيات،أما لو استمر الحال على ماهو عليه الآن سنكون قد قوضنا كل شرعية ومشروعية لا فقط للنظام البرلماني بل وللمؤسسة البرلمانية في حدّ ذاتها، ونكون أيضا قد مهدنا الطريق لكل التيارات الشعبوية التي تريد تحطيم كل المؤسسات التمثيلية .
هل مازال في هذا البرلمان ما يكفي من العقلاء في مختلف الكتل لإيقاف هذا الانحدار الخطير ؟
ذلك هو السؤال ..