أن يمر شهر جانفي بسلام،وبعد ذلك يطوى الملف وتقبر الأفكار والمقترحات المتناثرة والتي أضحت بدورها مناسباتية ويفرغ كل واحد لحال أمره ..
نجمع كلّنا على أن الاحتجاجات – بغض النظر عن شكلها وعنفها وشعاراتها – إنما تقول لنا شيئا واحدا : نحن لسنا مواطنين متساوين في هذه البلاد ،وانه ينبغي أن نراجع بصفة جذرية طريقة حوكمة المجتمع .
ولكن ما إن يخمد ضجيج الاحتجاج الصاخب حتى نعود جميعا إلى طاحونة الشيء المعتاد: صراعات سياسية يعتقد كل المساهمين فيها أنها لبّ القضية ومدخل كل إصلاح ..
بعيدا عن الأوهام الإيديولوجية للجميع ..ما الذي يريد أن يقوله لنا الشباب المحتج ؟ انه يقول لنا أمرا واحد : لا يريد أن يكون أسيرا لصدفة يناصيب الحياة مجاليا وطبقيا وعائليا، فهو يريد أن يتمتع وأن ينجح وأن يعترف به وأن يكون له مكان تحت الشمس ..لا يريد أن تقبر كل أحلامه وهو مازال في سن الأزهار ..هذا الشباب لا يعبأ كثيرا بطبيعة منظومة الحكم واختياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. هو فقط يريد أن يعيش كما يعيش أبناء الأحياء الفاخرة وألا يتعرض للوصم من قبل أي كان وألا تكون علاقته بالبلاد محصورة في علاقته بجهازها الأمني ..
ولمن لم يفهم بعد عمق هذا الطلب عليه أن ينصت قليلا لأغاني الراب وأغاني الفيراج لجل الفرق الرياضية وأن ينتبه للقطيعة العدائية بين هذا الشباب وكل ما يمثل الدولة ورموزها..
ولكن هذا الشباب العنيف -أحيانا- لا يعبر فقط عن ألمه الخاص بل عن المناطق والأحياء والمدن والقرى بكل أجيالها وأطيافها ..فعندما توجد «غيتوات» في مجتمع ما لا ينبغي أن نستغرب من ردة فعل عنيفة لا فقط ماديا بل وكذلك ذهنيا وعاطفيا ..
ما هو الحلّ : دولة أكثر ليبرالية تسمح بانسيابية الحركية الاقتصادية داخل هذه الأحياء أم دولة اجتماعية (لكي لا نقول اشتراكية) تستثمر أكثر في البنية التحتية وفي التربية والصحة ثم تقوم بتشغيل هذا الشباب في وزاراتها ومؤسساتها العمومية ؟ هذا النقاش هو أحد عناوين الأزمة ويكشف معه عن عجز النخب(كفئات لا كأفراد) على استنباط الحلول الفعلية قصد تطبيقها العملي في حياة الناس .
لننطلق من المعاينة المباشرة ومن هذا الشباب الذي يريد أن يعيش كشباب أحياء الطبقات الوسطى والمرفهة ..ماذ الذي يعنيه هذا الطلب الميكرو اجتماعي على مستوى البلاد ككل ؟ يعني ببساطة أن تكون غالبيته أحيائنا ومدننا متقاربة من حيث التوصيف السوسيولوجي..فلو قلنا أن هنالك في تونس كمعدل وطني عام %10 من الطبقة المرفهة و%70 من الطبقة الوسطى بكل مستوياتها و%20 من الطبقة الشعبية ، فيجب أن نجد نسبا متقاربة من هذا المعدل الوطني في كل مجموعاتنا السكانية.
من المقبول أن يتكون حي ضخم من %5 من الطبقة المرفهة ومن %60 من الطبقة الوسطى ومن %35 من الطبقة الشعبية ولكن من غير المقبول أن تجد مناطق عدة لا توجد فيها بالمرّة طبقة مرفهة وتتدنى فيها الطبقة الوسطى إلى الثلث وأن تتكون غالبيتها من الطبقة الشعبية بينما لا نكاد نجد بالمرة ممثلين عن الطبقة الشعبية في أحياء أخرى خاصة في تونس الكبرى وفي أهم المدن الساحلية.
ما معنى أن يُراهن البلد بأسره على مثل هذا التوازن المجالي ؟
يعني بداية أن ترى فيه الدولة فرصة للنمو وللتنمية لا عبئا ماليا وأن يتم التخطيط لنهضة عمرانية شاملة وأن نعيد رسم كل المدن والأحياء والقرى وأن يشترك المجتمع المدني والسلطة المحلية والشباب عبر نواديه وجمعياته في تصور حي أو مدينة الغد ببنيتها التحتية ومساحاتها الخضراء وبخدماتها العمومية وبأماكن الترفيه الشبابي والعائلي ومحلاتها التجارية وفضاءات المهن المختلفة وان يتم التشبيك السليم مع المناطق الصناعية المجاورة.. إن تحسين مناخ الحياة هو أحد أهم شروط القضاء التدريجي على الغيتوات وهو الذي يثبت الطبقة المرفهة والطبقات الوسطى ويخلق ويجلب الكفاءات والخبرات إلى هذه المناطق ويخلق مواطن الشغل ويحسن من جودة التعليم والصحة والنقل ويجعل من أبناء منطقة
ما يسهمون بصفة ملموسة في بناء حي أفضل وأجمل ، وهنا نحقق المعادلة المفقودة بين النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية ولكن مشروعا ضخما كهذا لا معنى له دون ان تنخرط فيه كل فئات المجتمع وقواه الحية ودون أن يقبل كل التونسيين من الطبقة الميسورة ومن الطبقات الوسطى العليا خاصة الخروج بدورهم من غيتوات رفاهيتهم وان يتقاسموا السكنى والتعليم والعلاج ووسائل النقل وأماكن الترفيه مع كل أبناء وبنات بلدهم وخاصة مع أهالي الأحياء الشعبية التي تفصلهم عنهم جغرافيا كيلومترات معدودة ولكن الفاصل الذهني والنفسي يقاس أحيانا بالسنوات الضوئية ..
نحن لسنا إزاء تصور ملائكي ولا نقول بأن هنالك بلدا واحدا يمكن ان تنتفي فيه الفوارق الاجتماعية ولكن لو أبّدنا هذه الفوارق في الأذهان قبل الأعيان وجعلنا جدرانا سميكة من مختلف فئات المجتمع ومنعنا- بالفعل لا بالقانون - الحركية الاجتماعية وتساوى الحظوظ والفرص بين الجميع فسنبقى نعيش دوما على وقع احتجاجات تتزايد عنفا وراديكالية .. فعلا كما يقول الشعار الاشهاري: الرفاه لا قيمة له ما لم يكن قاسما مشتركا بين الجميع.