في عنــــف شبـــــاب المدن

العشرات وأحيانا المئات من الشباب بعيد بداية حظر التجول يخرجون للشوارع ويستهدفون قوات الأمن وبعض المحلات التجارية

وفروع البنوك والبريد ويشعلون عجلات مطاطية ثم يهشمون مداخل الفضاءات التجارية وبعضهم ينهب منها كل ما يمكن نهبه.تلي ذلك إيقافات وكرّ وفرّ مع قوى الأمن والحرس، والنتيجة على امتداد الأيام الأربعة للحجر الصحي مئات الإيقافات وجرحى بالعشرات في صفوف الأمن وحجز للبضاعة المنهوبة وأضرار متفاوتة الأهمية للمحلات والمؤسسات المستهدفة..
إزاء كل هذا لا يمكن لعاقل واحد ألا يدين مظاهر العنف والنهب هذه، ولكن ماذا بعد؟ وكيف نفسر هذه السلوكيات الخطرة في مدن وأحياء عدّة من الجمهورية؟ وهل يمكن للحلّ الأمني – وهو ضروري في مثل هده الحالات – أن يكون هو الجواب الوحيد للدولة ؟
ما ميّز هذه الأيام الأربعة هو الغياب الكلي لكل مطلب سياسي أو شعار احتجاجي كما نعهده في كل التحركات الاجتماعية بما فيها تلك التي تحدث ليلا وترافقها أعمال عنف تجاه القوات الأمنية خاصة أو حتى نهب وسرقة ..فهل يعني هذا أننا أمام مجموعات من الجانحين فقط لا غير ؟ أم أننا أمام أصناف جديدة من الاحتجاج العنيف لا تعترف بكل الأطر المؤسساتية أو شبه المؤسساتية للاحتجاج ؟
يخطئ من يعتقد أننا إزاء حالة عنف طارئة ، أو أن أسبابها تعود فقط إلى عشرية الثورة،كما يخطئ من يعتقد بأن هنالك جهة ما بصدد تحريك كل هذه التحركات وأنها تهدف من ورائها إلى تحقيق غايات سياسية بالمعنى العام للكلمة ..
إذا كان لابدّ من البحث في أسباب هذه الظاهرة فلنقف أساسا عند عناصرها الأساسية وعند تراكماتها عبر الزمن وعن الرسائل التي توجهها للدولة وللمجتمع في آن ..
العنف الجماعي الذي يلجأ إليه أحيانا بعض شباب المدن والأحياء ليس وليد اليوم وبعض عناصره الأساسية تعود إلى عقود طويلة وهي مرتبطة بنسق الإدماج الاقتصادي والاجتماعي والعمراني والثقافي لجزء هام من مواطنينا ..
لا ينكر أحد الجهود الضخمة التي بذلتها دولة الاستقلال في عقودها الأولى لتنمية المجتمع عبر المدرسة والخدمات العمومية والحركية الاقتصادية ولكن ومنذ البداية لم تتمكن هذه العملية التنموية من الحدّ من الفوارق بين الجهات والفئات الاجتماعية ،بل ازدادت الهوة اتساعا بحكم اختلاف نقطة الانطلاق فحصلت هجرة داخلية واسعة (اصطلح عليها آنذاك بالنزوح) من المناطق الداخلية نحو أهم المدن والأقطاب الساحلية ،وخاصة تونس الكبرى،كما شملت الهجرة الداخلية الولايات والجهات بتحول جزء من أهالي الأرياف إلى المناطق الحضرية بحثا عن الشغل أو الالتحاق بالوظيفة العمومية أو بداعي الدراسة ثم الاستقرار ..
ولعل أهم نقيصة في سياسات دولة الاستقلال هي عدم انتباهها منذ وقت مبكر إلى نشوء نوع من «الغيتوات» على هامش هذه المدن الكبرى وكذلك داخلها في الأحياء الشعبية القديمة التي هجرها سكانها.
والعزلة النسبية التي يخلقها «الغيتو» تجعل الفئات الأكثر قدرة على الإدماج في النسيج الاقتصادي والاجتماعي للمدن الكبرى تسعى لمغادرة هذه الأحياء بما يعمق حالة العزلة النسبية ويسهم بدوره في ديناميكية الإقصاء الاجتماعي ، ولعل أحداث انتفاضة الخبز في جانفي 1984 اكبر دليل على نتيجة النمو اللامتكافئ بين بعض المدن وأحزمتها الجديدة .
لابد أن نقول للإنصاف أن دولة الاستقلال ومنذ أوساط الثمانينات قد بذلت جهودا كبيرة لتهيئة هذه المدن / الأحياء على مستوى البنى التحتية بما أفرز حركية عمرانية واقتصادية لافتة ، ولكن لم تخطط الدولة منذ تلك الفترة على ادماج فعلي مدرسيا واقتصاديا وثقافيا لسكان مناطق التخوم هذه ..عندما نراكم في نفس الفضاء الكثافة السكانية ونسبا ارفع من الفقر ومن البطالة وخاصة عند الشباب والانقطاع المدرسي وتكتفي الدولة بالحدّ الأدنى من الحضور، كل هذا يخلق على هامش هذه الهوامش المناخات الملائمة للعنف والتطرف ولظاهرة المجموعات الشبابية المتبنية لمواقف القطيعة والعداء مع الدولة ومع رموز سيادتها وكذلك مع المجتمع المنظم ورموزه الاقتصادية والمالية والثقافية والجمعياتية والنقابية والسياسية..
وهنا تنمو وتترعرع كل السلوكيات الخطرة من «الحرقة» والمخدرات والجنوح والتطرف كما تنمو ثقافة القطيعة والعداء للدولة ولكل من يمثلها ويعوض حينها الانتماء لمجموعة في الحي لا فقط الانتماء للوطن بل وحتى في أحيان كثيرة الانتماء للعائلة الضيقة .فهذه الأصوات العقلانية التي تدعو اليوم العائلات لمنع أبنائها القصر من الخروج بعد وقت حظر الجولان لا تدرك أن عائلات كثيرة قد فقدت السيطرة الأدبية على أبنائها وان معاداة الدولة ورموزها تنمو طردا مع التمرد على العائلة .
في السلوكيات العنيفة لهذا الجزء من الشباب هنالك ولاشك ما يوصّف كجنح وجرائم ولكننا لسنا أمام عصابات إجرامية بل أمام مجموعات انقطع العقد بينها وبين الدولة والمجتمع وترسخ في مخيالها انه لا حل لها في هذه البلاد وأنها أمام حليّن لا ثالث لهما: إما «الحرقة» ومع ما قد ينجر عنها من موت عنيف أو الموت البطيء في بلادها.
صحيح أن هذه المجموعات لا ترفع شعارات سياسية وهي لا تنخرط كذلك في الحركات الاحتجاجية المطالبة بالشغل والتنمية ولكن عنفها الجماعي ورفضها للدولة وعدوانيتها الجماعية (لا الفردية ، إذ الفرق شاسع بين بسيكولوجيا الأفراد وبسيكولوجيا الجماعات) كل هذا هو رسائل سياسية واضحة للدولة وللمجتمع .
لا تكمن الحكمة في تبرير العنف بالنظر إلى جذوره البعيدة والقريبة . فالعنف مدان والنهب مدان ومن تثبت عليه اقتراف هذه الجرائم لابد أن تتم محاسبته حتى يدرك انه لا وجود لفعل مجرّم دون ترتيب نتيجة عقابية له ..
ولكن السؤال الأهم هو ما الذي يمكننا أن نفعله اليوم وغدا لشباب التخوم المهمش اجتماعيا ومدرسيا وثقافيا ؟ كيف ندمج هذه المناطق وهذه الفئات ،سواء احتج شبابها ام لم يحتج،في تنمية بشرية إدماجية؟ وماهي أنجع السياسات العمومية لكي تصبح هذه المناطق بعد عقد من الأزمة ورشات نحل لخلق الثروة والتميّز ؟
لو تركنا هذه الأسئلة دون تفكير دون أجوبة واعتقدنا أن عنف شباب المدن ظرفي يمكن تجاوزه بالحل الأمني الذكي نكون قد فاقمنا ألازمة وعمقنا الشرخ الاجتماعي الذي تعاني منه بلادنا منذ عقود .. بل منذ قرون ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115