10 محطات في الذكرى العاشرة للثورة التونسية: IV- التمييز الإيجابي: الحــــاضر بالقـــول والغائب بالفعل

أفاق عدد هام من التونسيين أياما قليلة بعد الثورة على مشاهد الفقر والفقر المدقع التي كانت محجوبة إعلاميا عن الأنظار وتأكدت فكرة لدى الرأي العام أن التنمية التي حصلت

في البلاد منذ الاستقلال لم تستفد منها كل جهات البلاد بصفة متقاربة، بل تفاقم الاختلال وتعطل في هذه المناطق قبل غيرها المصعد الاجتماعي وأصبحت الشهائد الجامعية مدخلا للبطالة أو للعمل الهش لا جواز سفر لارتقاء اجتماعي.. وكانت كلمة السرّ عند الجميع وبلا استثناءات تذكر: التمييز الايجابي لوضع حدّ لهذه التنمية غير المتكافئة بين المناطق الساحلية والجهات الداخلية وتم تضمين هذا المبدإ في الفصل 12 من الدستور الذي يقول «تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والتوازن بين الجهات،استنادا إلى مؤشرات التنمية واعتمادا على مبدإ التمييز الايجابي .كما تعمل على الاستغلال الرشيد للثروات الوطنية».

ولكن هذا المبدأ الدستوري بقي دون تنزيل واضح في سياسات عمومية محددة باستثناء ما عمدت إليه حكومة يوسف الشاهد من تخصيص جزء من مقاعد الدراسة الجامعية لبنات وأبناء هذه الجهات في ما سمي «بالشعب النبيلة» كالدراسات الطبية والهندسية وغيرها .. في ما سوى ذاك لا وجود لسياسة عمومية واحدة يمكن وضعها بصفة جدية في خانة «التمييز الايجابي».

لقد كانت بعض الدول الغربية – وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية – أول من وضع سياسات عمومية للتمييز الايجابي في جملة من منظوماتها التربوية والتكوينية وفي التشغيل وفي البروز كذلك في الفضاء العام .

وتهدف كل سياسات التمييز الايجابي إلى كسر حلقات عدم تكافؤ الفرص بحكم التمييز الفعلي الحاصل في هذه البلدان بحكم العرق أو الاثنية أو الجنس أو الأصل أو الجندر بإتباع سياسة تميّز الفئات الأقل حظا حتى تخفف إلى الأقصى من هذه العوائق أمام التساوي المفترض في حظوظ الأفراد في سباق التفوق المدرسي والمهني والاجتماعي بشكل عام .فالعدالة تقتضي ألا نعامل بطريقة متساوية أفرادا غير متساويين بصفة هيكلية.

لا يهدف التمييز الايجابي إلى القضاء على الفوارق الاجتماعية بل يهدف إلى منع تحول هذه الفوارق إلى معيقات تفرغ فكرة تساوي الفرص والحظوظ من كل مضمون فعلي.

ننسى أحيانا أن الثورة البورجوازية -والبورجوازي في الأصل هو ساكن مدينة صغيرة- قامت ضد نظام الامتيازات الإقطاعي المتوارث جيلا عن جيل وإقرار المساواة القانونية بين كل المواطنين، ولكن تطور النظام الرأسمالي خلق امتيازات جديدة تحولت بدورها بحكم الواقع التاريخي إلى ما يشبه الامتيازات المتوارثة في النظام الاقطاعي فيكون ابن الفقير فقيرا لا بحكم القانون ولكن بحكم انسداد كل أفق ممكن للخروج من وضعية الفقر.

المدرسة العمومية والمجانية لكل البنات والأولاد كانت هي اجابة النظام الرأسمالي لتفعيل مبدإ الحركية الاجتماعية (la mobilité sociale) حتى يرتبط قدر الإمكان نجاح الفرد بقدراته الذاتية لا بأصوله الاجتماعية ولكن ورغم النجاحات التي لا تنكر للمدرسة في تحقيق هذه الحركية الاجتماعية إلا أنها استبطنت هي بدورها نظام الامتيازات الفعلي في المجتمع هذا إن لم تعمقه، وهذا ما حصل في بلادنا وفي بلاد كثيرة في العالم ،وهذا ما جاءت سياسات التمييز الايجابي لتعديله ولو بصفة جزئية.

التمييز الايجابي يعني في نهاية الأمر رفع نسق النمو بصفة غير متوازية وعلى فترة طويلة بين المحظوظين والأقل حظا ،فلكي نحقق تمييزا ايجابيا فعليا في ولايات الوسط الغربي على سبيل المثال (أي القيروان وسيدي بوزيد والقصرين) ينبغي أن تكون نسبة النمو في هذه الجهات ارفع من المعدل الوطني بنقطتين أو ثلاث على امتداد عقدين أو أكثر حتى تصبح فرص التفوق والنجاح متقاربة بين هذه الجهة وبقية مناطق الجمهورية.

ولكن كيف يمكن أن نصل إلى ذلك وكيف نجعل من سياسات التمييز الايجابي استثمارا مجديا في المستقبل وفي رفاهية كل مناطق البلاد ؟ ثم عندما نتحدث عن التمييز الايجابي نرانا نضعه فقط على المستوى الجهوي (كما نص على ذلك الدستور) وننسى أن النمو اللامتكافئ (حسب عبارة سمير أمين) يهم الجهة والفئة الاجتماعية والفئة العمرية والنوع الاجتماعي أيضا، أي أننا لسنا أمام ظاهرة محددة جغرافيا بل أمام ظاهرة تخترق كل النسيج الاجتماعي للبلاد .. فمناطق التمييز الايجابي ليست مكانية كما توحي الكلمة بهذا بل هي جهوية دونما شك (المناطق الداخلية ) واجتماعية (الفئات الفقيرة المهمشة في كل جهات البلاد ) وعمرية (الشباب وخاصة من هم دون سن 24 سنة حيث نجد أن معدل البطالة عندهم هو ضعف المعدل الوطني ) وجندرية (النساء في كل الأوساط ).

والسؤال هنا هل شرعنا حتى في مجرد التفكير في تصور السياسات العمومية القادرة على إحداث تمييز ايجابي فعلي؟ الجواب لا لو استثنينا مسألة التوجيه الجامعي التي أشرنا إليها آنفا وكذلك مبدأ التناصف في الهيئات المنتخبة .
الدولة مطالبة بتصور تنموي عام للبلاد (وهذا مفقود إلى حدّ الآن ) ولكنها مطالبة أيضا بحكم الدستور بتنمية عادلة وفق مبدإ التمييز الايجابي وهذا منعدم كلّيا .
كيف يمكن أن نضع اللبنات الأولى في هذا المشروع الوطني الضخم ؟

• أولا وقبل كل شيء الرصد والقيس والتحليل. لدينا في تونس بعض عمليات قيس واقع التفاوت الجهوي يقوم بها المعهد الوطني للإحصاء في تحقيقاته الكبرى حول الاستهلاك الأسري وواقع الفقر وخارطته وما قامت به وزارة التنمية حول مؤشرات التنمية الجهوية ولكننا لا نتوفر إلى حدّ اليوم على جهة واحدة تجمّع كل هذه المعطيات وتتعهد برصد العوامل الأخرى للتفاوت الجهوي تربويا وفي مختلف أنسجتنا الاقتصادية وعلى مستوى الخدمات العمومية ثم تحليل كل هذه المعطيات ورسم صورة محينة لواقع التفاوت في البلاد واقتراح السياسات العمومية الملائمة لإصلاح الخلل.ولعله قد آن الأوان لبعث هيئة أو مرصد وطني للتمييز الايجابي يجمع المعطيات ويحدث المؤشرات ويقوم بالدراسات حتى يعطي للدولة إطارا عاما ممكنا وملائما لسياسات عمومية قادمة .

• ثانيا : سياسة تربوية تعطي الأولوية للمناطق الأقل حظا منذ السنة الأولى للتعليم الابتدائي ،بل منذ السنة التحضيرية وذلك وفق مبدإ بسيط : أفضل المدرسات والمدرسين للمناطق الأقل حظا بالتحفيز المالي الهام وبفرض صيغ مرنة من دورية الإطارات التعليمية الأكثر كفاءة .ينبغي ان ندرك انه دون سياسة تمييز ايجابي تربوية ومنذ المرحلة الابتدائية لا إمكانية جدية لسياسات عمومية تقاوم في العمق التفاوت بين الجهات .

• ثالثا : النسج على منوال التوجيه الجامعي في الانتداب في الوظيفة العمومية بتمييز المعتمديات (لا الولايات) الأقل حظا وفق معادلة تراعي ضمان الحد الأدنى لكل جهات البلاد .

• رابعا : خلق خطوط تمويلية للتشجيع على الانتصاب للحساب الخاص لا فقط في المشاريع الصغرى والصغرى جدّا بل في المشاريع المتوسطة كذلك من اجل خلق جيل جديد من البعثات والباعثين في مناطق التخوم لمشاريع متوسطة وكبرى مع توفير الإحاطة والتأهيل لهم وتيسير بعث محاضن للمؤسسات يرعاها أرباب العمل الناجحون والذين اختاروا الخروج إلى التقاعد ولديهم استعداد لمثل هذا الصنف من العمل التضامني. وفي كل هذا يكون التمييز كذلك جندريا وجيليا .

المهم على كل حال أن يلمس الجميع وفي وقت قصير أن التفوق المدرسي والمهني والاجتماعي أصبح متاحا وله آليات واضحة في كل المناطق والجهات الأقل حظوة تنمويا .
إن نجاح التمييز الايجابي هو شرط نجاح الانتقال الديمقراطي في البلاد وهو كذلك شرط إمكان تقاسم الرفاهية، لا الخصاصة،لجموع التونسيات والتونسيين.

(يتبع)

V- منوال تربوي جديد

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115