10 محطات في الذكرى العاشرة للثورة التونسية: III- هل ينبغــي استئصـــال الإسلام السيــــــاسي ؟

«هل ينبغي استئصال الإسلام السياسي ؟» سؤال قد يبدو غريبا في سياق الانتقال الديمقراطي مادام الصندوق هو الفيصل الوحيد بين كل التيارات الفكرية والسياسية المتنافسة

في إطار القانون والدستور ..ولكن هل يحترم الإسلام السياسي فعلا الإطارين القانوني والدستوري؟
بعبارة أخرى هل يتناغم الإسلام السياسي مع الديمقراطية أم هل أن طبيعته منافية للقواعد العامة التي تحكم آليات التنافس داخل الإطار الديمقراطي ؟
لا يمكن أن ننكر أن هذا السؤال المحوري هو أحد أهم أسئلة الانتقال الديمقراطي في بلادنا وأن طريقة اجابتنا الجماعية عنه ستكيف ولاشك المآلات الواقعية للديمقراطية في بلادنا ..
لنعترف منذ البداية أننا إزاء إشكاليات ضخمة في التعريف النظري بداية وفي التنزيل الواقعي لهذا التعريف نهاية .
بداية ماهو الإسلام السياسي ؟

يمكننا أن نقول في مقاربة أولى عامة أن الإسلام السياسي هو مجموع الحركات والأحزاب والجمعيات والشخصيات التي تعمد إلى أدلجة الإسلام أي إلى تقديم الدين الإسلامي في صورة إيديولوجيا شاملة شمولية تحكم حياة الفرد والمجتمع والدولة تحت الشعار الذي وضعه سيد قطب (المنظر الأبرز للإسلام السياسي) «الإسلام نظام شامل للحياة».وعليه فالإسلام لا ينحصر فقط في قواعده الخمسة المعروفة بل هو نظام حكم شامل بنفس الدرجة التي هو بها شعائر تعبدية وعلاقة روحية بين الإنسان وربّه وهذه الايدولوجيا الاسلاموية ليست مضافة إلى الدين بحكم اجتهاد بشري بل هي التنزيل العملي الوحيد الممكن لركن الشهادتين وللإقرار بالتوحيد من ثمّة بالربوبية وبعبودية الإنسان التي لا تتحقق إلا في إطار الحاكمية لله وعليه يكون من أنكر هذه الايدولوجيا قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة وكان بالتالي جاهليا كمشركي قريش ،ومن هنا جاء تكفير كل من لا يحكم بما انزل الله ..

هذا التعريف الذي نجده خاصة في كتابات سيد قطب ومحمد قطب (الإخوان المسلمون في مصر )وأبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان يمثل إطارا تاريخيا وفكريا أوليا ،تفرع فيما بعد إلى تيارات راديكالية عنيفة تبنت العنف المسلح (تحت مسمى الجهاد) كوسيلة لتحقيق الحكم الإسلامي وأخرى عملت على أسلمة المجتمع كشرط ضروري وإلى أسلمة الدولة فيما تحول جزء هام من هذا التيار العام إلى تنظيمات سياسية تشارك في الانتخابات (الأردن ومصر قبل 2011) أو تقود حكومات (المغرب وتونس) أو تحكم بانقلابات عسكرية (السودان زمن حكم البشير) هذا لو اقتصرنا على العالم العربي السني أساسا كما أننا إزاء حالة أخرى من الإسلام السياسي في العالم الشيعي بدءا بالثورة الإسلامية في إيران المؤسسة على عقيدة ولاية الفقيه وتوابعها الفكرية من حزب الله اللبناني إلى تلوينات المشهد الشيعي الاسلاموي في العراق الى جماعة الحوثي في اليمن ، كما أن هنالك تجارب اسلاموية سنية غير عربية كما نشاهده مع حزب العدالة والتنمية في تركيا أو الحركة السياسية الجديدة التي أنشأها مهاتير محمد في ماليزيا ..هذا فضلا عن التنظيمات الإرهابية السلفية الجهادية المعولمة (القاعدة وداعش) المنحدرة من التقاء الراديكالية القطبية (نسبة إلى سيد قطب) العنيفة مع السلفية الوهابية المتشددة..وكذلك ما سمي بالصحوة الإسلامية خاصة في المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج ..

نحن إذن أمام طيف واسع من التنظيمات والأفكار والممارسات جذورها متقاربة ولاشك ولكن واقعها اليوم قد تنوع كثيرا متأثرا بالبيئة الوطنية لكل تنظيم ، وهذا ما يعيد طرح سؤالنا بشكل مختلف : إذا ما اتفقنا أن جزءا من هذا الطيف الاسلاموي لا يمكن البتة قبوله في المنظومة الديمقراطية إما لأنه جعل من الإرهاب وسيلة نشاطه الأساسية أو لأنه ينكر أصلا الديمقراطية أو لأنه إرهاب «لايت» أي يقرّ مبادئ الغلو والتكفير ولكنه لا يتبنى ظاهريا العنف والتفجير بل يسعى فقط لتنسيبه أو لإلقاء مسؤوليته على جهات أخرى (نظم فاسدة أو مخابرات أو جهات معادية للثورة والإسلام) ولكن السؤال هنا هو: كيف نتعامل مع تيارات الإسلام السياسي، كالنهضة في تونس أو حزب العدالة والتنمية في المغرب، والتي تعلن انخراطها في العملية الديمقراطية وأنها أحزاب مدنية ولكن بمرجعية إسلامية؟

نحن لا نتحدث هنا عن التحالف أو «التوافق» مع هذه التيارات فذلك يندرج في خانة اللعبة السياسية بل في الوضع الانطولوجي – إن صحّت الكلمة – لهذه التيارات في البناء الديمقراطي ..هل هي جزء منه ام هي على هامشه أم هي مضادة له ؟
والسؤال المكمل ضرورة لهذا هو : هل يمكن بناء نظام ديمقراطي في بلادنا بإقصاء مثل هذه الحركات من المشهد القانوني للحياة الحزبية أم لا ؟
هذه هي الجدلية التي نبغي لنا أن ننظر إلى طرفيها بصفة مترابطة دوما .

بعبارة أخرى ماهي الشروط الدنيا التي ينبغي فرضها على كل تيار حتى يتم القبول به في الدائرة الديمقراطية وكذلك وفي نفس الوقت ماهي حدود الإقصاء التي إن تجاوزناها في حق مجموعة أو حركة ما نكون قد خرجنا من الدائرة الديمقراطية ؟
عندما نطرح السؤال بهذه الطريقة تتبين لنا التعقيدات الفكرية والسياسية لكل إجابة جدية .

لقد اعتقدنا في تونس أننا توصلنا إلى حلّ هذه الإشكالية بوضعنا لدستور يضبط شروط وحدود العيش المشترك فـ»حرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات مضمونة» كما ينص على ذلك الفصل 35 من الدستور شرط أن تلتزم هذه «الأحزاب والنقابات والجمعيات في أنظمتها الأساسية وفي أنشطتها بأحكام الدستور والقانون وبالشفافية المالية ونبذ العنف» .
نظريا نحن أمام تسييج مرضي ومقبول للحياة الديمقراطية ولكن ما العمل أمام تنظيم اسلاموي يقبل ظاهريا بهذه المبادئ ولكنه يرفض جوهرها وفلسفتها في خطابه وممارساته؟

ماذا نفعل أمام حزب – اليوم أو غدا – يقول انه قابل بالدستور ولكنه لا يؤمن بالمساواة بين الجنسين أو يدعو صراحة إلى تطبيق الشريعة ويعتبر أن مطلبه هذا لا يتعارض مع «مدنية الدولة» ؟ أو انه يعتبر أن بعض مخالفيه خارجون عن الدين دون أن يرى في ذلك تكفيرا يمنعه صريح الفصل السادس من الدستور ؟
نحن لسنا أمام أسئلة افتراضية بل أمام جزء من المشهد الاسلاموي الحالي القابل بشكلانية الديمقراطية باعتبارها وسيلة للوصول إلى السلطة الرافض لمضمونها الفلسفي والأخلاقي القائم على معيارية الإنسان وسلطان العقل والحقوق الطبيعية للفرد .

ولكن القول بأن للحركات المنحدرة من الإسلام السياسي هوية سرمدية ثابتة وأن كل مرونة ظاهرة من خطابها إنما هو نفاق وتقية فهذا أيضا نوع من النظرة الماهوية الدينية للأشياء وعدم إيمان بتصور الظواهر الاجتماعية والسياسية وبثبوتية الأفكار وأن الأساسي يوجد في النصوص لا في الواقع الملموس .
لو وسعنا النظر وتأملنا في تجارب أمم وشعوب أخرى لتبين لنا أن تيارات ديمقراطية عديدة اليوم انحدرت من إيديولوجيات شمولية استبدادية يمينية كانت أم يسارية.

فالحركات السياسية تتأقلم مع محيطها تماما كالكائنات الحية المحكومة بقانون النشوء والارتقاء الدارويني ..هذا لا يعني بالطبع أن كل تحول هو في الاتجاه الايجابي السليم والدليل على ذلك وجود الجماعات الإرهابية السلفية الجهادية المعولمة ،ولكن الحكم أن هنالك استحالة ماهوية لحركة سياسية ما عن التطور الجزئي في بعض مكوناتها هو من قبيل الجمود الفكري كذلك .

ولكن الواضح أننا لم نشهد بعد في أوساط الإسلام السياسي التحول الجوهري الذي يجعله ينخرط كلية في الديمقراطية لأن ذلك يستوجب منه القطع مع أصل إيديولوجي أساسي وهو ارتهان السياسي بالديني والاعتقاد بأن الدين جاء ليدير الحياة الشخصية والجماعية للبشر،فدون فصل كلي بين المجال الروحي والمجال الزمني السياسي لا يمكن بناء ديمقراطية مدنية فعلية ، بل ودون تخليص السياسة من الايدولوجيا لا مجال لخلق الفضاء الديمقراطي العصري .

مصلحة الانتقال الديمقراطي في تونس هي في تخلص كل مكونات المشهد السياسي من معيقاتها الإيديولوجية التي تجعلها تنظر إلى الساحة السياسية كساحة وعن، الفرز فيها بين العدو والصديق هو محركها الأساسي. وفي هذا السياق يكون إرث الحركات المنحدرة من الإسلام السياسي أثقل بكثير لأنها تتحرك في مخيال يختلط فيه المقدس بالدنيوي والعملي بالرسالي ،كما تخشى قيادات هذه الحركات الإعلان الواضح والصريح عن أن حلم البدايات إنما هو من قبيل اضعاث الأحلام تحولت عند المتطرفين إلى كوابيس دموية ..

يقيننا أن الأجزاء القابلة للانخراط الكلي والنهائي في الديمقراطية من ظاهرة الإسلام السياسي لن تجنح إلى هذا فقط نتيجة تطور داخلي بل تحت ضغط خارجي قوي ،كما هو الشأن بالنسبة لكل كائن حي ،ولكن لو تحول هذا الضغط إلى إقصاء من الوجود القانوني كما يعلم بذلك بعض التونسيين فهذا يعني أننا نحتاج الى عنف الدولة المادي والمعنوي لاقصاء طرف سياسي من الوجود دون الاستناد إلى حجة القانون وقوته بل الى قانون القوة فقط لا غير ..

لو أقدمت الدولة على هذا الإقصاء ،هل تبقى مع ذلك ديمقراطية ؟ لقد أثبتت التجربة التاريخية زيف ووهم هذا الادعاء إذا كان التخلص القانوني من خصم ما بداية لمسار تتخلص فيه السلطة من كل خصومها..
العلاقة بين الديمقراطية والإسلام السياسي هي علاقة صراع ولاشك ..صراع يهدف – فيما يهدف – إلى إدماج كل من آمن بالديمقراطية وامتثل بالكامل لشروطها ..أما ما سوى ذلك فقفزة في المجهول وعودة إلى الاستبداد ولو كان ذلك تحت مسميات جديدة .

يتبع

IV-التمييز الايجابي: الحاضر بالقول والغائب بالفعل

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115