10 محطات في الذكرى العاشرة للثورة التونسية: II- الحريات الفردية والعامة وسوء التفاهم التاريخي

«شغل، حرية، كرامة وطنية» كان الشعار الأبرز للثورة التونسية ،شعار ردده الجميع في كل أصقاع البلاد ومثل بالتالي نوعا من الثالوث المقدس للثورة التونسية .

ولكن لِمَ اختلفنا في تحديد مفهوم الحرية إلى حدّ التعادي؟ ولم خرجت «الخطوط الحمراء» عندما أردنا أن نعطي مفهوما إيجابيا لمختلف الحريات الفردية والعامة المندرجة ضمن المجال الكبير لمفهوم «الحرية» ؟
لو اتبعنا نفس المنهجية التي أردناها لهذه السلسة ونظرنا إلى هذه المسألة من علٍ ووضعنا بين قوسين مسلماتنا العقائدية ومخاوفنا الوجودية ولو إلى حين لتبين لنا بوضوح أننا إزاء مفهوم إشكالي جاذبيته لا تقاوم من خارجه فيضع لها البعض فخاخا داخلها قصد إفراغ المفهوم من كل شحنة تبدو سلبية لهؤلاء ..
إشكالية مفهوم الحرية تتأتى من الفرق الشاسع بين المعنى الشائع المتداول للحرية ومفهوما الفلسفي والحقوقي..

كان هنالك مفهوم واحد موحد للحرية في عصور ما قبل الحداثة وفي كل ثقافات الدنيا تقريبا : الحرية هي الوضع الإنساني المضاد للعبودية .

فالحرية والعبودية وضعيتان تكادان تكونان وجوديتين أي مرتبطتين بوضعية إنسان ما ، والانتقال من وضعية إلى أخرى تستوجب تحولا جذريا إما في حياة شعب ما بعد هزيمة عسكرية أي في حياة شخص ما تمكن من شراء نفسه ولكنه يبقى دوما وفي جلّ شعوب الدنيا دون الإنسان الحرّ ويورث وضعية «العتيق» الدونية لأحفاد أحفاده ..
ثم نجد في العصور الحديثة والمعاصرة وفي المجتمعات الإسلامية بالذات تصورا دينيا يقوم على الفكرة التالية: إن العبودية لله وحده من شرط حرية الإنسان والمساواة بين البشر ، وهذه الفكرة لا توجد فقط عند جماعات الإسلام السياسي ولكن كلك عند أصحاب الفكر الديني التقليدي الرسمي المؤسساتي ..

وثمة عنصر ثالث لتفسير سوء الفهم التاريخي للحرية ولعله الأهم في نظرنا لأنه يشق تيارات فكرية مختلفة وله مسحة ثورية في الظاهر وهو تحديد الذات (le sujet) التي تتعلق بها الحرية وما يتبعها من حقوق فردية وجماعية .. فهل نحن نتحدث عن الإنسان كفرد أم عن الإنسان كجماعة ، ومن ثمة على أي أساس تنبني حقوق الإنسان؟ هل هي حقوق الفرد المجرد من كل انتمائية اجتماعية وثقافية وعرقية وجندرية أم هي حقوق الجماعة (الشعب، الوطن، القبيلة ..الأمة ..).. بل ويذهب الكثيرون – عندنا وعند غيرنا – إلى الاعتقاد بأن الحقوق والحريات الفردية إن هي إلا حصان طروادة لضرب حقوق الشعوب وارتهان استقلالها وسيادتها عبر ضرب شخصيتها الوطنية.وبناء عليه تكون الحريات العامة (تشكيل الأحزاب والجمعيات والتظاهر والاحتجاج والاقتراع ..) هي المقصودة بشعار الثورة المركزي والحريات الفردية هي تنزيل كل هذه الحقوق والحريات على مستوى المواطن لكي يتمتع بهذه الحريات العامة وفضاء التنزيل هذا هو حرية التعبير وحرية الاختيار.. إذن الحرية الفردية ليست حرية مخصوصة بمجال مخصوص، وهي في الحقيقة حرية المواطن في الفضاء العام أمّا الفرد،كهوية خاصة ، فلا كبير معنى له.

الفرد (l’individu) لم يتحول بعد بصفة كلية إلى ذات (sujet) في مخيالنا الجماعي ..فنحن نقرّ بوجود الأفراد كأشخاص وان لهؤلاء الأشخاص حرمة وحقوقا ولكننا لا نقرّ لهم بحقوق أصيلة لا علاقة لها بالعرف والعادة والأخلاق والدين.. فالفرد عندنا ليس ذاتا مكتملة بل هو جزء من ذات جماعية ولا يحق له الخروج عن أعراف الجماعة وإن فعل فليكن في فضائه الخاص جدّا دون ضجيج وتجاهر فما بالك بالتبني الواضح لقيم مغايرة في الفضاء العام أو التفاخر بها .

ولكن تونس بالطبع عاشت وتعيش على وقع تحولات العالم وتحولات مجتمعها منذ قرنين على الأقل ،والحريات الفردية لا تحتاج ،ضرورة، إلى فلاسفة لكي تنغرس في تجارب وحياة عدد متزايد من التونسيات والتونسيين،ثم إن مجلة الأحوال الشخصية والثورة الاجتماعية والذهنية التي أحدثتها غيّرت بدورها طريقة النظر إلى الفرد ووفرت بعض الشروط الموضوعية لانبجاسه كذات مكتملة حتى وإن لم ترافق دوما البنى الذهنية العامة هذه التحولات الضخمة في حياة الأفراد والعائلات..

ولهذا كان الصراع حول الحرية وحدودها طبيعيا ومنتظرا خاصة عندما رفعت القيود على جميع الأصوات والتيارات ..ولكن شهد هذا الصراع منعرجا خطيرا عندما أرادت الجماعات الاسلاموية العنيفة مدعومة بالإسلام السياسي الفائز في أول انتخابات بعد الثورة فرض مفهموها للحرية بالقوة على الأفراد والمجتمع بتكفير المخالفين وتفسيقهم وتخوينهم،وهذا لم يتوقف بعد حتى وإن توارى أحيانا عن الأعين اذ كان يكفي أن صدُر تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة الذي عهد به الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إلى الأستاذة بشرى بلحاج حميدة بمعيّة شخصيات فكرية وحقوقية مرموقة حتى عادت هذه الأصوات من جديد مكفرة مخونة مهددة متوعدة لان هنالك في بلادنا من يجرؤ على الإصداع بالمساواة بين الجنسين (وهي أصل الداء عند هؤلاء ) أو من يعلن على بعض الحقوق والحريات الفردية فالفرد عند هؤلاء معدوم ولا حقوق له كذات عاقلة سوى «حق» اتباع الجماعة،أما الحريات والحقوق المرتبطة بضميره ومعتقده وجسده فذلك هو عين الانحراف ..

لو قصرنا نظرنا على الآني لقلنا بأن أنصار حقوق الإنسان في شموليتها وكونيتها قد أصيبوا بنكسة ،فتقرير لجنة الحريات والمساواة قد قُبِرَ فيما يبدو وتونس قد انتخبت بنسبة وبكثافة غير مسبوقين رئيسا للجمهورية يقول علنا في يوم عيد المرأة بأنه لا يؤمن بالمساواة بين الجنسين ، كما أن غالبية الكتل البرلمانية الحالية لا تجعل من الحريات الفردية أولوية لها إن لم تكن تعاديها وتحشد الناس ضدّها..

ولكن لو نظرنا مرّة أخرى من علٍ وحاولنا استشراف الاتجاهات العامة للرأي العام وللنخب كذلك لرأينا أن تقدما هاما قد حصل خلال هذه العشرية في مسائل لا يبدو أن هنالك رابطا بينها ولكنها هي كلّها تمثل شروط إمكان قيام الفرد كذات في مجتمعنا والإقرار له بالتبعية بحقوق وحريات أصيلة وأصلية غير خاضعة لكل تحديد جماعي مهما كانت وجاهته .

• لقد حسمنا بصفة هامة مسألة الفصل والتمييز بين الديني والسياسي في حياتنا العامة بعد التجربة الكارثية للترويكا، ورسخنا هذا التمييز الضروري في الفصل الثاني للدستور والذي ينص صراحة على أن: «تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون» كما أضاف المؤسسون هذه العبارة المفتاح «لا يجوز تعديل هذا الفصل» بما يعطي للفصل الثاني القدرة التفسيرية للمبادئ العامة الواردة في الفصل الأول والتي استنسخناها حرفيا من دستور 1959.

• لقد اقر كذلك الدستور مبدأ المساواة بين المواطنات والمواطنين في الفصل 21 بصفة واضحة وصريحة وهذا ما سيعطي اليوم وغدا الحجة الدستورية لكل مطالبة بتعديل القوانين في اتجاه هذه المساواة التامة بين الجنسين.

• ولعل النقطة الأهم تتعلق بمكانة الدين والتدين في الحياة العامة. وفي الرأي العام الضمني يقوم على مبدإ «لا إفراط ولا تفريط» فالاسلمة العنيفة أو الناعمة مرفوضة من جلّ التونسيين ولكنهم لا يرغبون كذلك في نظام لائيكي على النمط الفرنسي..نحن في منطقة رمادية لم تتضح بعد معالمها بصفة نهائية ولكنها لن تكون بوضوح مع التصور الاسلاموي للدولة

وللدين ..

كل هذا يسمح بتجديد النظر وإعادة طرح سؤال الفرد كسؤال محوري لتونس اليوم حتى يتضح تدريجيا لغالبية الناس أن الحريات العامة انما تتأسس على حرية الفرد في ضميره وفكره وجسده لا على حرية قبلية اندثرت شروط وجودها رغم صولاتها وجولاتها إلى حدّ اليوم ..

(يتبع)
III- هل ينبغي استئصال الإسلام السياسي ؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115