خاصة عندما تحدث عن وقوع الاقتصاد التونسي تحت قبضة بعض اللوبيات العائلية وكيف أن هذه اللوبيات تتحكم أيضا في بعض المآلات السياسية وكيف أنها كانت وراء تعليق التفاوض حول اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق (ALECA) مع الاتحاد الأوروبي.
لا يعنينا هنا الجانب الديبلوماسي ومعرفة هل أن السفير قد خرج من واجب التحفظ أم لا وهل أن ذلك كان بمبادرة شخصية أم تطبيقا لتعليمات بروكسيل، ولن نناقش أيضا هل أن هذه «اللوبيات العائلية» هي فعلا التي كانت وراء تعطيل أو تجميد التفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول «الأليكا» وان كنا نعتقد أن هذا «التجميد» الذي كذبته السلط التونسية كان بداعي مخاوف الحكومة المنخرطة في الرهانات الانتخابية القادمة من اتهامها بخيانة الوطن وتسليم البلاد إلى «المستعمر» الأوروبي من جديد وأصحاب هذا الرأي معروفون ولا يتقاطعون البتة، فيما نعلم، مع اللوبيات العائلية المشار إليها في هذا الحوار.
الأهم في رأينا هو الوقوف عند توصيف سفير الاتحاد الأوروبي وحول مدى تطابقه مع واقع تونس اليوم.
لا جدال اليوم بأن هنالك مجموعات اقتصادية كبرى في كل بلدان العالم وأن عددا هاما منها كانت أو مازالت مجاميع عائلية حتى أننا كنا نتحدث في فرنسا وعلى امتداد أكثر من قرن عن مائتي عائلة (Les deux cent familles) تمتلك كل المقاليد المالية والاقتصادية لفرنسا من حوالي سنة 1800 إلى صعود الجبهة الشعبية للحكم سنة 1936، وكذا كل الوضع في كل الدول الرأسماليةحيث تكدست الثروة بصفة تراكمية في عدد محدود من العائلات وذاك ما كان يسميه «كارل ماركس» بالتراكم الأصلي لرأس المال (L'accumulation primitive du capital).
ولكن كل الديمقراطيات الرأسمالية اليوم تعمل على كسر كل نزعة احتكارية لهذه المجاميع الكبرى بدءا من الولايات المتحدة الأمريكية وقوانينها المعروفة بمحاربة الاحتكار (Les lois anti trust) والتي تمنع المؤسسات الضخمة من السيطرة الكلية على السوق.
ما هي وضعية تونس من كل هذا؟
لابد أن نذكر بأن دولة الاستقلال قد انبنت على صنفين من الزبونية: شبكات زبونية لمسك الفئات الشعبية والوسطي أساسا وشبكات زبونية لكبار الرأسماليين، والقاعدة معروفة في الشبكات الزبونية: الولاء مقابل جملة من الفوائد.
لوقلنا بأن وضعنا يشبه فرنسا أو أمريكا في القرن التاسع عشر لجانبنا الصواب ولكن منظومتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية انبنت على هذا الصنف الخاص من الزبونية والذي أنتج أسواقا مغلقة في بعض القطاعات وأخرى عسيرة الاقتحام من قبل الوافدين الجدد.
جلّ المجموعات العائلية القوية اقتصاديا ظهرت بالأساس في سبعينات القرن الماضي بفضل التشجيعات السخية للدولة التونسية ولقد سمح هذا بتكوين طبقة جديدة من المستثمرين والصناعيين وتمكن بعضهم من الصعود إلى أن أصبحوا في مواقع شبه احتكارية في بعض القطاعات ولم يعمد نظام بورقيبة ولا نظام بن علي خاصة إلى فرض تنافسية فعلية على هذه القطاعات بل شجع هذه النزعات الاحتكارية وأضحت بعض هذه العائلات تمثل القاعدة المالية الصلبة لمنظومة الحكم... هل تغيّر الأمر بعد الثورة؟
كل حكومات ما بعد الثورة تعاملت مع الملف الاقتصادي والاجتماعي بنوع من الاستخفاف اذ طغت عليها الهواجس السياسوية ولم تكن تملك جميعها رؤية لحوكمة مختلفة للشأن الاقتصادي.
ولكن هل تتحكم فعلا هذه العائلات في القرارات السياسية المتعلقة بادارة الاقتصاد؟ الواضح أن هنالك شبهات قوية في بعض الملفات وأن هنالك قرارات سياسية ترجمت أحيانا بقوانين تفوح منا رائحة اللوبيات.
يخطئ من يعتقد أن الحلّ هو في التضييق على هذه المجموعات الاقتصادية العائلية الكبيرة فاقتصاد عصري يحتاج إلى رأس مال خاص قادر على الاستثمارات الكبرى وعلى اكتساح أسواق جديدة.. المطلوب هو كسر الاحتكار وتحكم بعض المجموعات الكبرى في سوق معينة. فالسوق الاقتصادية كالمياه ان ركدت أسنت وقوتها في حركيتها لا في ثباتها أي في سهولة دخول فاعلين جدد وأن لا تحمى بعض المجموعات بقوانين تحدّ من التنافس..
والحلّ أيضا ألا تبقى الثروة حكرا على بعض الجهات أو الفئات أو العائلات وأن يشتغل المصعد الاجتماعي كذلك على مستوى خلق المؤسسات ونموها.
من لم يكن أبوه أو جده مستثمرا في الستينات أو السبعينات لا ينبغي أن يحكم عليه وللأبد بالبقاء خارج دائرة الاستثمار والثروة.
الاشكال الأساسي لا يكمن في اختيار نظام رأسمالي أو اشتراكي، فهذا جدل قد حسم عالميا ولكن في جعل اقتصاد السوق منفتحا على التجدد وفي جعل الثروة موزعة بأقدار من العدل بين الجهات والفئات وألا يجد صاحب فكرة جديدة نفسه أمام حواجز هرقلية من الاجراءات ومن استحالة التمويل ومن احكام بعضهم قبضتهم على السوق...
بهذا المعنى التحول الاقتصادي والاجتماعي لم يبدأ بعد في البلاد وهذا تتحمل مسؤوليته كل الحكومات المتعاقبة ولكن أيضا كل النخبة السياسية والاجتماعية لأنها بقيت أسيرة لنمطية أيديولوجية متهالكة ونسيت الأهم: الثورة هي المشاركة السياسية للجميع وهي التشارك أيضا في الثروة وادخال حركية قوية في كل البرك الآسنة.
بهذا المعنىشكرا لسفير الاتحاد الأوروبي رغم كل شيء.