قهوة الأحد: مقترحات لحل المسألة الاجتماعية

لئن ساهمت الإيقافات الأخيرة في الانطلاق في تحقيق أحد أهم مطالب الثورة بعد أكثر من ست سنوات من انطلاقها وهو محاربة الفساد فإن المسألة الاجتماعية وهي أحد الاستحقاقات الكبرى للثورة مازالت تنتظر الانجاز .ونشير هنا إلى أن التهميش الاجتماعي والبطالة والحيف الاجتماعي

والتفاوت الجهوي عوامل ساهمت في انطلاقة شرارة الثورة في بلادنا في 17 ديسمبر 2017.فالأزمة الاجتماعية الخانقة وتصاعد الاحتجاجات في كل مناطق البلاد من الحوض المنجمي في 2008 إلى بن قردان في صائفة 2010 ساهمت في ضرب العقد السياسي والاجتماعي والذي فرضه النظام السابق والذي يتمثل في تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي مقابل التفريط في حقوقهم السياسية والاجتماعية .فكان شعار العقد الذي سعى إلى تركيزه ككل الأنظمة الاستبدادية هو التسلط وغياب الحريات مقابل الشغل والرفاه الاجتماعي
إلا أنّ الأزمة الاجتماعية وعجز النظام السابق عن تحقيق وعوده الاجتماعية ساهما في انتفاء مشروعيته وانطلاق الثورة في بلادنا والتي امتدت إلى اغلب البلدان العربية لتنتفي مقولة الاستشراف حول خصوصية بلداننا وعدم انفتاحها على مبادئ الحرية والتعدد والديمقراطية .وتركزت مطالب الثورات العربية على مسالتين هامتين وهي الحرية ونهاية نظام الاستبداد السياسي والكرامة الوطنية والعدالة أي الخروج من الأزمة الاجتماعية بوضع نمط نمو جديد ينهي واقع التهميش ويفتح عهدا جديدا من الاندماج الاجتماعي والتوازن الجهوي
وقد فتحت الثورات العربية فترة مخاض وتحولات كبرى من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا أن هذا المسار الثوري والذي فتح آمالا كبيرة في بناء مجتمعات ديمقراطية والخروج من عهد الاستبداد الشرقي كما يسميه المستشرقون سرعان ما عرف انحرافا كبيرا ليتحول في عديد البلدان إلى حروب طاحنة دمرت المؤسسات وحتى المجتمع واتت على الأخضر واليابس.

وقد نجحت بلادنا في حماية مسار التحول الديمقراطي والمحافظة عليه بالرغم من الأزمات العامة التي عرفناها مع صعود الإرهاب.فقدمنا خطوات كبيرة في إطار البناء الديمقراطي من خلال تبني دستور الجمهورية الثانية في بداية 2014 ثم تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وبناء المؤسسات الديمقراطية .طبعا لم يكن هذا المسار سهلا بل رافقته العديد من الصعوبات والأزمات والتي تمكننا من تجاوز جزء كبير منها إلا أنه وبالرغم من التقدم الذي عرفه المجال السياسي في مسار التحول الديمقراطي فإن المسالة الاجتماعية لاتزال تراوح مكانها والأزمة التي كانت وراء سقوط النظام السابق زادت حدة وعجزت اغلب الحكومات في إيجاد الحلول الضرورية للخروج منها .وقد ساهم تواصل تردي الوضع الاجتماعي في حالة اليأس والقنوط والإحباط التي تعرفها اغلب مناطق البلاد.كما لعب هذا العجز في التعاطي بطريقة جدية مع المسالة الاجتماعية في سنوات ما بعد الثورة دورا في تصاعد الاحتقان الاجتماعي والحركات الاجتماعية في عديد المناطق الاجتماعية في بلادنا

وقد ساهمت دراسات وتقارير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مواكبة هذه التحركات وفهم ديناميكيتها وحركتها وقد أشارت التقارير الأخيرة إلى اتساع دائرة هذه التحركات الاجتماعية والطابع الراديكالي لمطالبها بعد سنوات من التهميش وعدم الاهتمام

–وقد أثبتت تحركات تطاوين واعتصام الكامور هذا التوجه نحو المزيد من الراديكالية في المطالب الاجتماعية
وسنحاول في هذا المقال تقديم بعض الإجابات والملاحظات حول ثلاث مسائل هامة المسالة الأولى تخص الوضع الاجتماعي وتطورات المسألة الاجتماعية في ما بعد الثورة .المسالة الثانية تخص أسباب تردي الوضع الاجتماعي وفشل السياسات الاجتماعية أمّا المسالة الثالثة فتخص بعض الملاحظات للانطلاق بطريقة جدية في حل المسالة الاجتماعية التي من شانها ان تعطي الاستقرار الضروري لمواصلة البناء الديمقراطي والنمو الاقتصادي

في بعض ملامح الأزمة الاجتماعية
إن ما يمكن أن نلاحظه عند الاهتمام بالمسالة هو هي شحّ المعطيات والمعلومات .وهي و إن وجدناها فهي جزئية ولا يمكن لها أن تعطينا فكرة كاملة على الوضع الاجتماعي في بلادنا- وإن كنا نفهم سر الإبقاء على هذا الشحّ عند النظام السابق والراجع بالأساس إلى تردي الوضع الاجتماعي وعمق الأزمة الاجتماعية التي تعيشها بلادنا فإننا نستغرب تواصل هذا الشح وغياب المعطيات الشاملة في فترة ما بعد الثورة لأخذ فكرة ضافية وكافية عن تطور الوضع الاجتماعي في بلادنا وقدرة السياسات الاقتصادية والاجتماعية على الخروج من الأزمة الاجتماعية ونحن نغتنم هذه الفرصة لندعو الحكومة وكل الأطراف الاجتماعية ومراكز البحث ومنظمات المجتمع المدني لبعث مرصد مستقل مهمته توثيق أهم تطورات الوضع الاجتماعي في كل جوانبه من شغل وصحة وتعليم وبطالة .
وتكون مهمة هذا المرصد متابعة الوضع الاجتماعي وإنتاج الأرقام التي تمكننا من متابعته تطور أهم المؤشرات وتعطينا بالتالي فكرة واضحة عن المسالة الاجتماعية إلى جانب انجازها لدراسات وبحوث حول السياسات الاجتماعية

إلا أنه وبالرغم من هذا الشح في المعطيات والمعلومات فانه يمكننا الحصول على بعض هذه المؤشرات من تقارير المنظمات الدولية وبصفة خاصة برنامج الأمم المتحدة للإنماء والتي تؤكد في اغلب تحاليلها على عمق الأزمة الاجتماعية ونمو البطالة والتهميش بالرغم من الوعود التي قطعتها على نفسها كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وهذه المعطيات والتحاليل تؤكد نتيجة هامة وهي فشل هذه السياسات في تطوير الوضع الاجتماعي وتحقيق أحد أهم استحقاقات الثورة ووعودها .

فعلى مستوى الفقر تشير أرقام تقرير الأمم المتحدة لسنة 2013 أن هذه الظاهرة تتميز بعدم توازن هام بين الجهات.والفقر الذي حددته الأمم المتحدة بأقل من دولار دخل يومي يمس الجهات الداخلية وبصفة خاصة الوسط الغربي أكثر من الجهات الساحلية .فلئن يمس الفقر شخصا على ثلاثة في الوسط الغربي فان هذه النسبة تصبح شخص على خمسة في جهات الوسط الشرقي وتونس الكبرى. وقد أكد هذا التقرير على معطى هام وهو نمو هذه الفوارق بين الجهات منذ بداية الألفية .فقد وصلت نسبة الفقر المدقع بجهات الشمال الغربي والوسط الغربي بين 8 و13 مرة لنفس النسبة في منطقة تونس الكبرى سنة 2010 بينما لم تكن تتجاوز 2.8 و5.9 سنة 2010.

كما أشارت هذه التقارير أن عدم التوازن الجهوي لا يقتصر على الفقر بل يخص كذلك مستويات التشغيل والبطالة فنسبة البطالة وصلت حسب تقرير الأمم المتحدة سنة 2012 إلى %51.7 في ولاية توزر بينما كانت بـ %8.9بولاية زغوان و%5.7 في ولاية المنستير

ونفس الملاحظة الخاصة باتساع الفوراق الجهوية تخص كذلك التعليم حيث بلغت نسبة الانخراط بالنسبة للأطفال ما بين سن 6 و 11 سنة %99.5 في تونس الكبرى بينما بقيت هذه النسبة في مستوى %92 في ولاية القصرين سنة 2011.ونلاحظ هذه الفوارق كذلك

على مستوى النجاح في المدارس الابتدائية والثانوية
وقد أشار هذا التقرير إلى الميادين الاجتماعية الأخرى كالصحة والمرأة والوفاة في السنوات الأولى بعد الولادة والمساواة بين المرأة والرجل على جميع المستويات
وتشير هذه الأرقام والدراسات إلى عمق المسالة الاجتماعية التي تواجهها بلادنا وخطورة الأزمة الاجتماعية والتي كانت وراء اشتعال الثورة في 2011 وستبقى هذه الأزمة فتيلا ينذر بالإشتعال في أي وقت كما هو الحال في الاحتجاجات الاجتماعية التي تدور رحاها في ولاية تطاوين واعتصام الكامور وهذه الأزمة الاجتماعية ستكون في رأيي عنصر عدم استقرار يمكن له أن يهدد مستقبل الديمقراطية الناشئة في بلادنا .

المسالة الاجتماعية وفشل السياسات
إن الأزمة الاجتماعية الخانقة التي تعيشها بلادنا هي نتيجة فشل السياسات الاجتماعية المتبعة منذ سنوات ولم تعرف هذه السياسات تغييرا كبيرا منذ الثورة اذ كانت في اغلبها مواصلة للسياسات التي تم تطبيقها اثر أزمة 1986 وتطبيق برنامج التعديل الهيكلي .وعملت هذه السياسات على تفكيك السياسات الاجتماعية لدولة «الرفاه» التي عرفتها بلادنا منذ الستينات والتي تعطي دورا تعديليا أساسيا للدولة لبناء عقد اجتماعي هدفه تحقيق تنمية اجتماعية عادلة ومتوازنة بين الجهات
إلا أن أزمة المديونية التي عرفتها البلدان النامية في بداية السنوات 1920 والهجمة الكبيرة للقوى النيوليبرالية على المستوى العالمي كانت وراء تراجع الدولة وسياساتها التعديلية وإعطاء دور كبير وأساسي للسوق لا فقط في السياسات الاقتصادية بل كذلك في السياسات الاجتماعية

ولم تكن بلادنا خارج هذه التطورات الكبرى و انخراطت منذ أزمة 1986 في جملة هذه التطورات الكبرى لينحسر دور الدولة ويترك مجالا أوسع للسوق لا فقط في مجالات السياسة الاقتصادية بل كذلك في عديد الميادين الأخرى ومن ضمنها السياسة الاجتماعية
ومنذ ذلك الوقت صار التمشي الأساسي للسياسة الاجتماعية هو التقليص في تدخل الدولة ليصبح التطور الاجتماعي والمسالة الاجتماعية هي نتيجة الديناميكية الاقتصادية وحركة الاستثمار والسوق وأصبح الخطاب الرسمي والتحاليل والقراءات تؤكد أن التشغيل والاندماج

الاجتماعي هو نتاج للعملية الاقتصادية ولتطور اقتصاد السوق

وقد أثبتت هذه السياسات حدودها وأنتجت نموا غير متكافئ وساهمت بدرجة كبيرة في تفاوت النمو بين الجهات الداخلية والجهات الساحلية وهذه النقائص ليست مقتصرة على بلادنا فقد أكد عديد الاقتصاديين على حدود السوق وظهرت عديد النظريات الاقتصادية التي أكدت على ما أصبح يسمى بعدم كمالية السوق أو « « Les imperfections du marché وقد تدعمت هذه التحاليل والقراءات اثر الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية لسنوات 2006و2008 – وكانت هذه الأزمات وراء عودة السياسات الكينزية وتدخل الدولة في الاقتصاد لتجاوز سلبيات ونقائص اقتصاد السوق

وقد عرفت السياسات الاجتماعية تطورا كذلك في هذا المجال وحاولت عديد البلدان تحديد ووضع سياسات تدخل نشيطة تهدف إلى الحد من عدم التوازن والتهميش الجهوي والاجتماعي الذي يخلقه اقتصاد السوق.وعرفت بلادنا مرادفا لهذه السياسات حيث عرفنا منذ نهاية التسعينات محاولات الإجابة عن مشاكل النمو التي تعيشها الجهات الداخلية من خلال تنظيم مجالس وزارية جهوية وضبط جملة من القرارات للحد من هذا التفاوت .وقد واصلت مختلف الحكومات تنظيم هذه اللقاءات والتعاطي مع المسالة الاجتماعية بطرق جزئية وغير شاملة

إلا أن هذه السياسات أثبتت فشلها وعجزها وعدم قدرتها على فتح آفاق جديدة للتنمية الاجتماعية

من أجل برنامج شامل وعاجل للمسالة الاجتماعية
لقد اثبت تصاعد الحركات الاجتماعية وحدتها عجز السياسات التقليدية في التعاطي مع الأزمة الاجتماعية الخانقة التي تعيشها بلادنا منذ سنوات وقد خلق هذا الفشل جوا من الإحباط وفقدان الأمل ساهم بطريقة مباشرة في واقع عدم الاستقرار الذي تعيشه بلادنا.وفي رأيي فانه لابد لنا من القطع مع هذه السياسات التقليدية ولابد لنا من ضبط برنامج عاجل وشامل للخروج من هذه الأزمات الاجتماعية ولخلق مناخ جديد من الثقة والاستقرار يمكننا من المضي قدما في مسار التحول الديمقراطي

وندعو الحكومة والفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين ومنظمات المجتمع المدني إلى ضبط برنامج شامل على المستوى الوطني في المجالات الحيوية كالتشغيل والبنية الأساسية والصحة والتعليم والتكوين للتعاطي بجدية مع المسالة الاجتماعية والخروج من حالة الإحباط والعجز التي تعرفها اغلب جهات البلاد.وبالرغم من شح مواردنا المالية وأزمة المالية العمومية فإننا نعتقد انه بإمكاننا توفير الإمكانية الضرورية لهذا البرنامج الوطني الشامل

لقد خطت بلادنا خطوات هامة على مستوى التحول الديمقراطي لبناء مجتمع جديد توأمه الحرية والديمقراطية والتعدد إلا أن هذا البناء يبقى هشا وهذه الطريق مليئة بالمخاطر طالما لم ندعمها بحل الأزمة الاجتماعية وبصياغة برنامج شامل يعيد الأمل وينهي حالة الإحباط التي تسود في اغلب الجهات الداخلية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115