وقد بدا، منذ الوهلة الأولى، أن هذا الرقم يعكس تفاؤلًا مفرطًا لا ينسجم مع معطيات الواقع الاقتصادي الراهن، وذلك ما يبدو انه تأكد بعد صدور بيانات المعهد الوطني للإحصاء التي كشفت أن نسبة النمو خلال الثلاثي الأول لم تتجاوز 1.6 %.
نسبة لا تخفي هشاشتها، إذ استندت بالأساس إلى أداء القطاع الفلاحي الذي حقق ارتفاعًا لافتًا بنسبة 7.0 %، مما أتاح دفعًا ظرفيًا للناتج المحلي الإجمالي، دون أن يعكس ذلك تحسنًا هيكليًا أو مستدامًا في بقية مكونات المنظومة الاقتصادية. القطاع الصناعي، مثلًا، لم يسجل سوى نمو ضعيف في حدود 0.5 %، وهو نمو جزئي مردّه بعض التحسّن في الصناعات الفلاحية والغذائية والميكانيكية، قابلت ذلك تراجعات مقلقة في قطاعات أخرى كالصناعات الكيميائية والنسيج، مما يكرّس هشاشة البنية الإنتاجية وارتهانها للتقلبات الخارجية وكلفة التوريد.
وتُظهر المؤشرات التي قدّمها المعهد الوطني للإحصاء أن هذا النمو، حتى في حدّه الأدنى، لا يعكس تحولًا بنيويًا ناتجًا عن إصلاحات عميقة أو تطور مؤسسي، بل يظل رهين عوامل ظرفية قد تنهار أمام أيّة صدمة خارجية أو أية تقلبات إقليمية.
من أبرز هذه المؤشرات، ما يتعلق بالطلب الداخلي، الذي شهد ديناميكية إيجابية نسبيًا بنسبة 3.7 %، مدفوعًا بارتفاع نفقات الاستهلاك والاستثمار، مما أسهم بشكل إيجابي في النمو. غير أن هذه الديناميكية اصطدمت مجددًا بخلل مستمر في الميزان التجاري، إذ ارتفعت الواردات بـ8.6 % مقابل زيادة محدودة للصادرات بـ4.5 %، مما أدّى إلى مساهمة سلبية لصافي المبادلات الخارجية في الناتج المحلي بنحو 2.4 نقاط مئوية.
هنا تتجلّى المعضلة البنيوية: اقتصاد يستهلك أكثر مما يُنتج، ويستورد أكثر مما يُصدّر، وتبقى حركته رهينة لسياقات ظرفية وخارجية مما يجعله عُرضة بصفة مستمرة الى العجز والضغوط التمويلية المتفاقمة.وتتعمّق أزمة الاقتصاد الذي بات رهينًا لمتغيرات خارجية مثل أسعار الطاقة والطلب الأوروبي، كما ظل أسيرًا لنموذج تنموي متآكل عاجز عن إنتاج الثروة داخليًا أو استقطاب استثمارات نوعية طويلة الأمد.
ويسعى البعض إلى تسويق هذه الأرقام في ثوب من التفاؤل، لكن قراءتها بمعزل عن السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتأزمة تُعد مغالطة، ذلك أن ارتفاع أعباء الدين العمومي وتراجع جودة الخدمات الأساسية وضعف السياسات الاجتماعية، تشكّل ثلاثيًا قاتلًا لأيّ مسعى تنموي جاد كما تحول دون تحويل النمو إلى مكتسب فعلي في مؤشرات العدالة والتكافؤ وتحسين شروط العيش.
في هذا السياق، تؤكد نسبة النمو المسجّلة في الثلاثي الأول (1.6 %) ، وفق تقديرات صادرة عن صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، أن البلاد تسير نحو نسبة نمو تتراوح بين 1.4 % و1.9 % لسنة 2025. مما يعمّق الهوّة بين الخطاب الحكومي والتقديرات الواقعية، ولا يكشف عن تباين منهجي في احتساب المؤشرات، بل يكشف كذلك عن خلل هيكلي أعمق في آليات التخطيط الاقتصادي وفشل في تلاؤم الأهداف مع الإمكانيات المتاحة.
يتضاعف هذا القصور في ظل غياب الإرادة السياسية الفعلية وتراجع مناخ الحريات والمشاركة المجتمعية وغياب عقد اجتماعي جديد يُعيد ضبط العلاقة بين الدولة ومواطنيها، كما بين الدولة والمحيط الاقتصادي. في ظل هذا الغياب، تبقى نسب النمو، مهما ارتفعت، مجرّد أرقام معلّقة في الفراغ، عاجزة عن مقاومة الأزمات أو بناء مستقبل مستقر.
سنة 2025 لا يجب أن تكون مجرّد عنوان للتجميل الرقمي أو التفاؤل الورقي، بل ينبغي أن تكون لحظة حاسمة لمواجهة مأزق اقتصادي وسياسي مركّب. لحظة تُراجع فيها الدولة أولوياتها بجرأة وتعيد توزيع مواردها على أسس من الإنصاف، كما تفتح أفقًا لحوار وطني تشاركي يرسم ملامح تحول اقتصادي واجتماعي حقيقي. دون ذلك، سيبقى النمو سرابًا في صحراء الأزمة، وستواصل البلاد الدوران في حلقة مفرغة.