وسلّطت الضوء على الفرص الكامنة التي لم تُستثمر بعد. أحدث هذه التقارير صدر يوم امس عن مجموعة البنك الدولي بعنوان «ترابط أفضل لتحقيق النمو»، وقد أشار التقرير بوضوح إلى أن ضعف الترابط التجاري في تونس — خاصة في ما يتعلق بأداء الموانئ البحرية — يشكل عائقًا كبيرًا أمام تحقيق النمو الاقتصادي.
وفق التقرير، يمكن للاقتصاد التونسي أن يحقق قفزة في الناتج المحلي الإجمالي تتراوح بين 7.6 % و9.5 % خلال ثلاث إلى أربع سنوات فقط، إذا تم تحسين أداء منظومة الموانئ من حيث الترابط والكفاءة اللوجستية والبنية التحتية. هذا التحليل لا يعيد التشخيص المتكرر لضعف سلاسل القيمة في تونس فقط، بل يُسلّط الضوء على عنصر طالما غُيِّب في السياسات التنموية: التجارة العابرة والترابط البحري.
ما يلفت الانتباه أن هذه الفرص لا تتطلب اكثر من قرارات سياسية واضحة واستثمارات ذكية في المجالات الصحيحة، اذ ان تونس، بما تملكه من موقع جغرافي استثنائي على تقاطع طرق التجارة بين أوروبا وشمال إفريقيا والساحل الصحراوي، تملك كل المؤهلات للتحول إلى مركز إقليمي للشحن العابر (Trans-shipment Hub) والخدمات اللوجستية، لكن هذا الدور لا يزال بعيدًا عن التحقق بسبب عراقيل إدارية وهيكلية مزمنة.
كما أشار تقرير البنك الدولي إلى أن تحسين كفاءة الموانئ وتقليص أوقات الانتظار يمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة من 4 % إلى 5 % خلال ثلاث أو أربع سنوات، فيما يمكن أن تضيف معالجة اختناقات الجمارك والخدمات اللوجستية 1 % إضافية. أما تحسين البنية التحتية للموانئ، مثل بناء محطات جديدة وتحديث المعدات وربط الموانئ بشبكات السكك الحديدية، يُتوقّع أن يُسهم بما بين 2.6 % الى 3.5 % من النمو الإضافي.
في المدى الأطول، يمكن أن يؤدي تحويل تونس إلى مركز شحن عابر إلى زيادة هامة الناتج المحلي الإجمالي ذلك ان البلاد في ظرف ثلاث إلى أربع سنوات قادرة على تسجيل معدل نمو تراكمي من 11 % إلى 14 % فقط من خلال استثمار ذكي في أحد أهم مفاصل التجارة الدولية: الموانئ.
هنا يكمن التحدي وفق ما كشفته بيانات منصة CEIC المتخصصة في تتبع مؤشرات التجارة واللوجستيات،والتي تشير إلى أن مدة مكوث البضائع في الموانئ التونسية خلال آخر 12 شهرًا كانت 3 أيام كحد أدنى وهي معدلات مرتفعة بالمقاييس الدولية، وتشير إلى وجود إشكال حقيقي في دورة التفريغ والمعالجة الجمركية والنقل الداخلي. هذا الواقع يؤكد أن التأخير لا يتعلق بالبنية التحتية فقط بل بمنظومة إدارية وتنظيمية مثقلة بالبيروقراطية وضعف التنسيق والنقص في الرقمنة.
ما تطرحه مجموعة البنك الدولي تصور متكامل، لا يقتصر على تحليل الأداء بل يقترح بوضوح خارطة طريق للارتقاء: من خلال إجراءات تنظيمية سريعة لتقليص أوقات المكوث وتحسين كفاءة الجمارك، بالاستثمار في التحديث والتوسعة وربط الموانئ بشبكات النقل الحديدي، إضافة إلى رقمنة العمليات واعتماد تعريفات مرنة وتنافسية.
هنا يكمن السؤال، هل ان لدى تونس الإرادة السياسية والمؤسساتية للاستثمار في دورها الطبيعي كمفترق طرق استراتيجي؟
وهل سيقع توجيه استثمارات ضخمة في الموانئ التونسية التي تبين اهتراء بنيتها التحتية. كما أن الحلول الظرفية التي تتخذها السلطة تدل على غياب التفكير الاستراتيجي مما يجعل تونس مجرد ممر عبور ضعيف في سلاسل التجارة العالمية، بينما تُنشئ دول الجوار موانئ متطورة وتُروّج لنفسها كمراكز جذب لوجستي متكاملة.
كما يؤكد تقرير البنك الدولي أن التنمية في العصر الراهن تتم كذلك بالتموقع الذكي داخل سلاسل القيمة العالمية. فقد أصبحت الموانئ اليوم شرايين تلك السلاسل ومقياسًا على مدى قدرة الدول على المنافسة.
إذا أرادت تونس أن تبني اقتصادًا مقاومًا للهزات، عليها أن تعيد التفكير في علاقتها بالبحر، لا بوصفه حدًا جغرافيًا، بل باعتبار أفقًا تنمويًا يجب الاستثمار فيه قبل فوات الأوان.
الفرصة قائمة، لكنها لن تنتظر طويلًا. وإذا لم تتحرك تونس الآن، قد تجد نفسها خارج اللعبة.