داخل أمريكا وخاصة خارجها .. والمسألة لا تتعلق فقط بالمقترحات «المجنونة» لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة وغدا من الضفة وبالضغوطات الضخمة المسلطة على بعض الدول العربية ، وخاصة مصر والأردن والسعودية ، بالمساهمة في التصفية النهائية للقضية الفلسطينية..المسألة تتعلق ايضا بمنافسي وحلفاء أمريكا على حدّ سواء ..
هنالك نزعة واضحة وصريحة وقوية لإحلال القوة الغاشمة محلّ مساحيق النظام الدولي للقوة الناعمة..فترامب يقول للأصدقاء والخصوم والأعداء بكل صلف انه غير ملتزم بأية مواثيق أو معاهدات أو تحالفات لا تخدم المصالح الأمريكية كما يراها ويتصورها وأنه مستعد لاستعمال الضغوطات الاقتصادية الكبرى ( كالترفيع المشط في المعاليم القمرقية) ضدّ الحلفاء وضدّ الخصوم على حدّ سواء كما أنه مستعد لاستعمال القوة العسكرية ضد كل من يقف أمام المصالح الأمريكية حتى ولو كان تاريخيا من حلفائها ..
في الحقيقة عالم القوة الغاشمة جديد فقط بالنسبة لحلفاء أمريكا لاسيما في القارة العجوز وفي امتداداتها الحضارية (الكندا مثلا) حيث تعودت كل هذه الدول وخاصة منذ الحرب العالمية الثانية على المظلة الأمريكية الحامية وعلى نوع من الأفضلية في التعامل معها ،أما بقية دول العالم أو ما يسمى بالجنوب الكلي (le sud global) فلا جديد يذكر بصفة جوهرية باستثناء مشهدية القرارات وإلقاء ما بقي من القفازات المخملية التي كانت تستعمل للتعمية على علاقات القوة التي تركزت بفضل مؤسسات ومواثيق تبدو وكأنها منصفة وخاضعة لمبادئ قانونية استعاضت بها الدول الكبرى عن الهيمنة الاستعمارية المباشرة بهمينة «لايت» باطنها غير ظاهرها على الاطلاق ..
الفضل الوحيد للقوة الغاشمة الأمريكية أنها قضت على ثنائية الظاهر والباطن في العلاقات الدولية وأظهرت للعيان أن المحرك الوحيد لهذه العلاقات منذ أن برزت الدول والإمبراطوريات هو علاقات القوة والقوة فقط.
يبدو لنا أن فوز ترامب ببرنامجه الواضح «أمريكا أولا» هو مؤشر هام على شعور قطاعات واسعة في بلد العم سام بالتراجع النسبي لبلدهم وأن العولمة التي اعتقد بعضهم أنها نهاية التاريخ بالانتصار والتمدد النهائي للنموذج الغربي على كل أرجاء المعمورة ، هذه «العولمة السعيدة» في النهاية سمحت لدول صاعدة خارج الفضاء الغربي بالتقدم السريع على كل المستويات الاقتصادية والتجارية والعلمية والعسكرية بما بات يهدد الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، اذ تبين أن خصوم اليوم (وعلى رأسهم الصين) سوف يتجاوزون «زعيمة العالم الحرّ» في غضون العقود القادمة وأنه في أفق نصف قرن فقط قد تكون كل الاقتصاديات العشر الأولى في العالم من خارج الفضاء الغربي باستثناء الولايات المتحدة وألمانيا .
في دراسة لـ«قلدمان ساكس» في ديسمبر 2022 بعنوان «الطريق نحو النمو العالمي سيكون أكثر بطء من الآن الى أفق 2075» قامت المؤسسة الامريكية بتوقع حجم اقتصاديات العالم سنة 2075 بالترليون دولار فكان أصحاب المراكز العشرة الاولى .
1 - الصين 57
2 - الهند 52
3 - الولايات المتحدة 51.5
4 - اندونيسيا 13.7
5 - نيجيريا 13.1
6 - الباكستان 12.3
7 - مصر 10.4
8 - البرازيل 8.7
9 - المانيا 8.1
10 - المكسيك 7.6
نحن ولاشك أمام توقعات على المدى الطويل ولا شيء يؤكد تحققها على هذا الوجه، لكننا في كل الأحوال ازاء عالم لا علاقة له البتة بعالمنا اليوم، وهكذا تكون عودة القوة الغاشمة اليوم في أمريكا – والأكيد غدا في دول أوروبية كبرى أخرى – المحاولة الأخيرة لإيقاف عجلة الزمن حتى لا يصبح العالم على الشاكلة التي توقعها قولدمان ساكس
الجديد فعلا هو تحول موازين القوى الاقتصادية وما يتبعها حتما من موازين قوى علمية وتكنولوجية وعسكرية والتي ستجعل العالم بعد نصف قرن فقط على غير شاكلته اليوم، حيث سيتأكد اليوم بروز عدة دول صاعدة الى قوى كبرى عالمية أو اقليمية ذات وزن كبير .. وحدها الولايات المتحدة قد تكون قادرة على المنافسة، لكن الصين تكون قد تجاوزتها كذلك الهند مع صعود لافت لدولتين آسيوتين أخرتين وهما اندونيسيا وباكستان أي أهم دولتين اسلاميتين في العالم ..
أما القارة العجوز فهي آيلة الى ضمور كبيير بالنسبة لأهم دولها فما بالك بدولها الاخرى.
صحيح ان الناتج المحلي الاجمالي لا يفسر كل شيء وخاصة عندما يتعلق الأمر بجودة حياة الافراد ولكنه يؤشر على تحولات أعمق قد تتضح معالمها مع بداية النصف الثاني من هذا القرن.
هذا هو الرهان الاستراتيجي الأساسي الذي يلعب أمامنا بواسطة القوة الغاشمة : امتلاك الريادة العالمية.. وحدسنا أن سياسة القوة الغاشمة لإدارة ترامب لن توقف عجلة الزمن بل ستسهم من حيث لا تريد في تسريعها وفي اقتراب موعد هذا التحول الضخم في موازين القوى الدولية.