قرار محكمة التعقيب في القضية الثالثة ضد سنية الدهماني: عندما يكون القضاء حاميا للحقوق والحريات

أصدرت الدائرة 29 بمحكمة التعقيب يوم 3 فيفري الجاري قرارا بخصوص الطعون

التي تقدم بها محامو المحامية والإعلامية سنية الدهماني بخصوص قضية رفعتها ضدها وزارة العدل اثر مراسلة من الهيئة العامة للسجون والإصلاح اشتكت فيها من تعليق سنية الدهماني حول وجود سلوك معارض لحقوق الانسان داخل السجون لاسيما في ما يتعلق بالمساجين السياسيين وكان ذلك على امواج اذاعة IFM يوم 9 نوفمبر 2023، وتبعا تم لذلك فتح تحقيق ضدّ سنية الدهماني وتم تكييف تصريحاتها كجريمة تندرج ضمن المرسوم 54 وفصله 24 الشهير والذي تصل فيه العقوبة الى 10 سنوات سجنا ، وقد أقرت دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف هذا التوصيف ورفضت طعون محاميي المشتكى بها ، وأخيرا طعن المحامون في قرار دائرة الاتهام لدى محكمة التعقيب وهي ثالث وأعلى درجات التقاضي وهي محكمة القانون كما يقال أي تنظر في سلامة الاجراءات من جهة وفي سلامة التوصيف القانوني للجرم المرتكب من جهة ثانية .

يمكن أن نعتبر أن هذا القرار التعقيبي الجزائي نقطة مفصلية في مسلسل التتبعات القضائية ضدّ صحفيين ومدونين ونقابيين ونشطاء مجتمع مدني وسياسيين ومواطنين على خلفية تصريحات أو تدوينات أدرجت كلها تحت طائلة المرسوم 54 (والفصل 24 بالذات) ومجلة الاتصالات والمجلة الجزائية. وقد تم اقرار هذا التمشي من قبل مختلف الدوائر الحكمية الى يومنا هذا ، باستثناء هذا القرار التعقيبي الذي أشرنا إليه والذي يمثل لوحده نوعا من الثورة القضائية والحقوقية والفكرية في بلادنا .

لن ندخل في التفاصيل الإجرائية والقانونية الصرفة (انظر مقال فتحية سعادة ص 9)وسنكتفي بالوقوف على فلسفة القانون التي اعتمدتها المحكمة والتي ولئن اقرت سلامة الاجراءات الشكلية إلا أنها نقضت بصورة مثيرة للإعجاب في القرار الاستئنافي وفي مستنداته القانونية .

ذكرّت هيئة المحكمة بمبدإ أساسي في دولة القانون وهو أن هرمية المنظومة التشريعية تخضع لمبدإ تدرج القواعد القانونية ..اي احترام النص الأدنى (نص قانوني مثلا) للنص الأسمى أو الأعلى (الدستور في وضعية الحال والمواثيق الدولية المصادق عليها من قبل الدولة التونسية ) والقاعدة القانونية لن تحظى بالمشروعية إلا في صورة انسجامها وعدم تناقضها مع القاعدة الاعلى ..

إضافة الى هذا التأطير العام ذكرت الدائرة التعقيبية قواعد التأويل للنص القانوني، من ذلك أن النص الواضح يطبق ولا يؤول ، ثم لو كان فيه غموض فلا يؤول أبدا بالتضييق على الحق وإنما لفائدة حقوق المظنون فيه .

كما أن القوانين المنظمة لممارسة الحقوق والحريات لا يجوز لها تقييد هذه الاخيرة الى درجة تنتفي فيها الحرية ويبقى فيها القيد فقط.

والأهم من ذلك اعتماد هذا القرار التعقيبي على تعريف المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان واللجنة الأممية للحقوق لمفهوم «المجتمع الديمقراطي» الوارد في الدستور التونسي باعتباره «مجتمعا يقوم على التعددية والتسامح والانفتاح» .

ثم عندما نظرت هيئة الدائرة التعقيبية في وضعية الحال وفي الأقوال التي صرحت بها سنية الدهماني رأت أن: «الخوض في ظروف المساجين والتعليق على المعاملة التي يتلقونها في المؤسسات السجنية والنقائص التي يشكو منها المساجين في حياتهم اليومية أثناء تواجدهم في السجن من الأمور التي كثيرا ما يتم تداولها في الصحافة والإعلام وذلك إما لنقدها او لنبذها والتنديد بها أو لتحسيس الجهات المعنية بضرورة الانتباه اليها واتخاذ الاجراءات اللازمة للحدّ منها».

قبل ذلك قامت الدائرة التعقيبية بتحليل قانوني معمق لتبرهن أن جرائم الصحافة لا تدخل البتة تحت طائلة المرسوم 54 ، وهذا هو مربط الفرس ، بل ضمن المرسومين 115 و116 المنظمين لحرية الاعلام (115) ولوسائل الاعلام السمعية والبصرية (116) وبالتالي ما قالته سنية الدهماني « لا يدخل تحت طائلة الفصل 24 من المرسوم (...) وإذا ثبت عدم صحة تلك التصريحات، فإن صاحبتها تكون موضوع مساءلة على معنى احكام المرسوم 115 المذكور».

في الأخير و«تبعا لسلطة هذه المحكمة في مراقبة سلامة تطبيق القانون من قبل محاكم الموضوع ونظرا للواجب المحمول عليها في حماية الحقوق والحريات من اي انتهاك (...) فإنه يتعين التصريح بقبول مطلب التعقيب أصلا ونقض القرار المطعون فيه».

وكان قرار المحكمة النقض مع الإحالة اي احالته على محكمة الاستئناف لتنظر فيه مجددا بهيئة أخرى.

في الحقيقة ما كان لهذا القرار أن يأخذ مثل هذا الحجم وهذه الحظوة لو عمل القضاء التونسي بالمنطق القانوني السليم منذ 2011 وهو احالة قضايا الصحافة والإعلام وفق المرسومين 115 و116 فقط لا غير .

للتذكر فإن سنية الدهماني - وغيرها كثير للأسف - تقبع في السجن في قضيتين مختلفتين نتيجة تصريحات إعلامية وبمقتضى المرسوم 54.

لا ندري هل ستنسج مختلف الدوائر الحكمية على غرار هذه الهيئة التعقيبية؟ وهل سيعتمد قرار هذه الاخيرة كفقه قضاء مستقر؟ أم أنه سيكون صرخة في واد كما قال عبد الرحمان الكواكبي منذ أكثر من قرن؟

عشرات الصحفيين والمدونين والنقابيين ونشطاء المجتمع المدني والسياسيين والمواطنين حوكموا أو هم بصدد المحاكمة وفق المرسوم 54 والحال أن كل المداخلات والكتابات موضوع التهم، وعلى افتراض خطئها، لا تندرج إلا في نطاق المرسومين 115 و116 فقط لا غير ..

فهل من استفاقة تعيد الحق الى أصحابه وتزيح كابوسا طال أكثر ممّا يجب ؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115