كما تكون هذه الفترة مواتية للقراء لمتابعة المادة الترفيهية من حكايات العظماء أو قصص حب أو تقديم مناطق سياسية أو حتى بعض الألعاب الترفيهية. كنت أشرت في مقابل سابق إلى اهتمامي بهذه الملاحق الصيفية وقدمت سلسلة من المقالات أعدتها صحيفة Le Monde الفرنسية حول نهاية العولمة. وأعود في هذا المقال إلى نفس الملاحق لأتمم سلسلة خمس أخرى قامت جريدة Liberation الفرنسية وهي عبارة عن مقالات عن كتاب وفلاسفة هامين وقعت استعارتهم أو تأويلهم من طرف تيارات سياسية أو فكرية لا فقط مختلفة بل حتى متناقضة مع آرائهم وأفكارهم وهذا ما سميته تحويل وجهة فكرية وهذه الظاهرة في رأيي هي مؤشر وتعبير عن أزمة الفكر العالمي وعدم قدرته على فهم التحولات والتغييرات العميقة التي يشهدها العالم. وهذا العجز يدفع بعض المفكرين والسياسيين إلى الخروج وتجاوز أطر التفكير وممارساتهم السياسية التقليدية للبحث عند مفكرين آخرين عن إجابات لتساؤلاتهم وحيرتهم الفكرية والسياسية.
وقد قدمت هذه السلسلة من المقالات مجموعة من المفكرين والفلاسفة والذين سيكونون عرضة لهذه المغامرات ومحاولات تحويل وجهة فكرية والمقال الأول تم تخصيصه لجورج أرويل george orwell وهو الكاتب البريطاني المعروف والذي اعتبرته صحيفة التايمز الثاني في قائمة 50 أعظم كاتب بريطاني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقد توفي أورويل سنة 1950 ليصبح من أشهر الكتاب وأهمهم.
إلى جانب عمله الفكري والاجتماعي كان أرويل مناضلا سياسيا ثوريا ويساريا وقد عرف طوال حياته ظروف عيش الطبقات الشعبية وبصفة خاصة الطبقة العاملة وكان من المناضلين الملتزمين حسب تعبير الإيطالي أنطونيو قرامشي وقد قاده التزامه السياسي إلى المشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب القوات الجمهورية للدفاع عن الجمهورية والتصدي للمطبات الفاشية لفرانكو وانقلابهم ضد الجمهورية.
وكان أورويل من المفكرين والمناضلين السياسيين القلائل في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي الذين ناهضوا أو واجهوا من الناحية الفكرية النظامين الرأسمالي والسوفياتي الحديث النشأة في تلك الأيام وقد انتقد أورويل النظام الراسمالي والفكر الليبيرالي واعتبره يخدم مصلحة الطبقات الاجتماعية الغنية والمالكة. وفي هذا الإطار انتقد آراء وتحاليل فريدريش هايك الذي سيصبح نبي الليبراليين في العالم حتى أن مارغريت تاتشر قالت عنه أنه كان له أكبر التأثير في حياتها ويعتبره الكثيرون الأب الروحي للثورة المحافظة التي ستهيمن على العالم في بداية ثمانينات القرن الماضي.ولعل أهمية أورويل الفكرية والسياسية تكمن في نقده للستالينية والنظام الشمولي الذي وضعته في تلك الأيام وهذا النقد ضمنه أورويل في قصته الشهيرة «1984» والتي عرفت نجاحا باهرا باعتبارها قامت بنقد راديكالي للأنظمة الاستبدادية أو الشمولية أين سيصف كيف سيترك المواطنون والناس بصفة عامة حريتهم جانبا للنظام أو ما سماه أورويل «الأخ الأكبر» للاهتمام بكل جزئيات حياتهم وتنظيمها وبالتالي عليهم الانصياع لإرادة هذا الأخ الأكبر وقد عرفت المفاهيم التي قدمها أورويل كالأخ الأكبر le grand frere والحرب الباردة والتفكير المزودج وجريمة الفكر وشرطة الفكر رواجا كبيرا خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد رجع في السنوات الأخيرة بعض المفكرين اليمينيين إلى أفكار أورويل لنقد الأنظمة الديمقراطية السائدة في أوروبا وفي العالم فهذه الأنظمة حسب هؤلاء ليست ديمقراطية كما تشير إلى نفسها بل هي منظمة ومحكومة من بعض اللوبيات أو الإخوة الكبار كما يشير إلى ذلك أورويل والتي تتحكم في قراراتها السياسية واختياراتها الاقتصادية والاجتماعية بعيدا عن مسرحية الديمقراطية التي تتشدق بها وهذه الأفكار مهدت لنظرية المؤامرة والتي تعتبر العالم منظما ومسيرا في بعض اللوبيات ولا مجال للمؤسسات الديمقراطية للتأثير فيه بل هي ليست إلا غطاء للقوى الكبرى أو الأخ الأكبر الذي يتحكم في حركته. هكذا حاول إذن بعض المفكرين في السنوات الأخيرة استعارة أفكار أرويل وتأويلها والغريب أنهم كانوا على نقيض أفكاره السياسية وقناعاته والتزاماته السياسية.
المفكر الثاني الذي تعرضت له هذه السلسلة هو الفيلسوف الألماني الكبير فريدريك نتشه ويعتبر أحد أهم الفلاسفة والأكثر شيوعا ولم يكتف بالخوض في القضايا الفلسفية بل كتب وساهم في عديد المجالات الفكرية الأخرى كالنقد الأدبي والشعر وعلم النفس واللغويات وتاريخ اللاتينية واليونانية وقد نشر عديد الكتب في كل هذه المواضيع أذكر من أبرزها العلم المرح وأفول الأصنام وكتب عن الموسيقى والموسيقي الألماني فاغنر ويتيمز أسلوب نيتشه بلغة راقية قريبة في بعض الأحيان من الشعر.
ولعل ما يميز نيتشه عن عديد الفلاسفة والمفكرين هو غزارة علمه وفورة أفكاره في بعض الأحيان جانبها الاستفزازي وقد أثارت بعض أفكاره وكثيرا من البلبلة واللبس خاصة عندما تحدث عن اليهود والنساء وقد كانت هذه الغزارة واللبس وبعض الأحيان التناقض في بعض أفكاره وراء تبنيه ومحاولة استعارته من العديد من التيارات الفكرية والسياسية المتناقضة.
ولعل النازيين هم أول من حاولوا الاستحواذ على نيتشه ويرجع هذا الاهتمام واستعارة أفكار نيتشه من طرف الحركة النازية إلى بعض كتاباته الملتبسة حول اليهود ودور العنصر الآري في بناء الحضارة وحمايتها من التلوث الذي عرفته كما نجد جذور هذا الاستحواذ وتحويل وجهة نيتشه الفكرية من النازيين إلى عدائه للديمقراطية والحياة اليومية للناس.... فكان يطمح إلى بناء المجتمع المثالي الذي يصل فيه الإنسان إلى الكمال وهو ما اعتبره النازيون هدف ثورتهم الفاشية.
إلا أن بعض الكتابات الأخرى وبعض الصفحات الأخرى في كتابه «الفكر المرح» خصصها نيتشه للدفاع عن اليهود ومساهمة كتابهم ومفكريهم في الحركة الفكرية في أوروبا مما يفند مزاعم النازيين عن عدائه للسامية إلا أن علاقة الفيلسوف المشبوهة بالحركة النازية كانت وراء تهميش أفكاره ودوره بعد الحرب العالمية الثانية.
إلا أن نيتشه سيعود إلى الأضواء بعد سنوات مع سارتر وكامي ليصبح أحد مراجع الحركة الوجودية ثم التيار الما بعد حداثي وقد كانت كتاباته ونقده للحداثة ودفاعه المستميت عن حرية الإنسان وراء العودة القوية لهذا المفكر ليصبح أحد مفكري اليسار الجديد بعد أن كان أحد ملهمي الحركة النازية.
المفكر الثالث الذي اهتمت به هذه الدراسات والذي كان كذلك محل تحويل وجهة فكرية هو المفكر والمناضل الشيوعي والإيطالي أنطونيو وقد ولد قرامشي في 22 جانفي 1891 في سردينيا في عائلة فقيرة وقد تحصل على منحة مكنته من الذهاب إلى مدينة طورينو ودخول كلية الآداب وقد تأثر بالمناخ الاجتماعي هناك ونضالية الطبقة العاملة فانخرط في حركة الشبيبة الاشتراكية واشتغل في الجريدة اليسارية واهتم فيها بالنقد الثقافي وبصفة خاصة بالنقد المسرحي ثم بعث مجلة وكتب فيها عديد المساهمات ومن ضمنها مقال حول المجالس العمالية والتي شهدت تطورا كبيرا في كل مدن إيطاليا وستقود إضرابات مارس وأفريل 1920 سيدخل قرامشي إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الذي ولد حديثا وسيذهب إلى موسكو ليمثل الحزب في الأممية وسيتزوج هناك قبل أن يعود إلى إيطاليا سنة 1924 أين سيقع انتخابه في البرلمان وسيصبح القائد الحقيقي للحزب الشيوعي وبالرغم من حصانته البرلمانية سيقع إلقاء القبض عليه من طرف عصابات موسيليني وإيداعه السجن في 8 نوفمبر 1926 أين سيقضي بقية حياته وحتى مماته يوم 27 أفريل 1937.
وستكون فترة السجن فترة فكرية خصبة ....حيث سيقوم بعمل فكري ودراسات هامة سيجمعها في ما سماها كراسات السجن.
وقد خاض قرامشي في هذه الدراسات في عديد المواضيع من ضمنها دور المثقف والمجتمع المدني والصراع الاجتماعي والحركة الثقافية وستجعل منه هذه الكتابات احد أهم مفكري الحركة الشيوعية العالمية المناهضة للدوغمائية الماركسية والفكر الستاليني المتحجر ولإعطاء فكرة عن أهمية قرامشي المفكر تشير أنه تم تخصيص حوالي 000 18 دراسة حول آرائه وأفكاره.
وكان كذلك قرامشي محل استمارة أو تحويل وجهة فكرية من عديد القوى اليمينية والتي كانت على طرفي نقيض من آرائه وأفكاره وكانت فكرتان أساسيتان محل استيراد واستقطاب من أهم مفكري أقصى اليمين وخاصة مراكز التفكير أو المحافظين في أمريكا العمالية.
المسالة الأولى هي قضية الهيمنة الاجتماعية وضرورة إعطائها الأهمية التي تستحقها من قبل القوى السياسية لبسط نفوذها على المجتمعات المسألة الثانية هي القضايا الثقافية ودورها في بسط الهيمنة الاجتماعية في المجتمعات المتقدمة. إذن استفادت القوى اليمينة من أفكار قرامشي وشكلت لها نقطة انطلاق لبسط نفوذها على المجتمعات الغربية بعد أزمة القوى الاشتراكية الديمقراطية والأزمات الاقتصادية في السبعينات والتي عطلت بسقوطها وصعود وهيمنة القوى اليمينية المحافظة والنيوليبيرالية في بداية ثمانينات القرن الماضي.
المفكر الرابع والذي اهتمت به هذه السلسلة هو الفيلسوف الألماني الكبير كارل شيث الذي ولد في 11 جويلية 1891 وتوفي في 7 افريل 1925 وقد كان له دور مهم من الناحية الفكرية والفلسفية وكتب في عديد المواضيع الهامة كالقضايا السياسية والحريات العامة.
وكالعديد من المثقفين والمفكرين الألمان فقد تأثر شميت بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وبصفة خاصة بالشروط التي اعتبرها الألمان مخزية والتي فرضتها البلدان المنتصرة على بلادهم ويعتبر العديد من الملاحظين أن فكر وتحاليل هذا الجيل من المفكرين الألمان
تأثر بهذه الهزيمة مما دفع العديد منهم إلى الوقوف إلى جانب صعود النظام النازي والذي اعتبروه سيعيد مجد بلادهم المفقود.
وسيساند شميت صعود النظام النازي بعد صعوده إلى الحكم سنة 1933 وهذه المساندة ورقاقه للحركات الثورية ودفاعه عن الفكر التقليدي ستجعل من شميت أحد مراجعها الفكرية وسيتواصل تأثير شميث الفكري إلى يومنا هذا حيث يعتبره المحافظون الجدد في أمريكا والذين كانوا وراء الحروب الأمريكية في العراق ملهمهم الأساسي ومرجعهم الفكري.
هكذا إذن يعتبر شميت من دعاة الفكر المحافظ وأحد رموزه الكبار إلا أن الغريب هو استعارته واستيراده من طرف بعض المفكرين اليساريين. ويجد هذا الاستيراد جذوره في نقد شميث لجمهورية فايمار الديمقراطية في العشرينات والتي صعدت النازية على أنقاضها السلطة إذن هذا النقد جعل من شميث مرجعا هاما من الناحية الفكرية لنقد الفكر الليبيرالي إلى درجة أن بعض مفكري اليسار لم يترددوا في الرجوع إليه والاستئناس بأرائه بالرغم من مواقفه اليمينية والمساندة بشدة الفكر النازي.
المفكرة الخامسة التي تعرضت لها هذه السلسلة بالقراءة هي الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل والتي ولدت في 3 فيفري 1909 ورحلت في 24 أوت1943 وبالرغم من حياتها القصيرة إذ لم تعش إلا 34 سنة فقد كانت غزيرة الإنتاج حيث ألفت أكثر من عشرين كتابا وقد أصبحت فايل أسطورة الفلسفة الحديثة بعد رحيلها واعتبرها الكثيرون أحد أهم الفلاسفة المعاصرين وقد كانت تتميز بذكاء غير عادي ودرست كل العلوم كالرياضيات والديانات وعلم التاريخ وكانت لها مساهمات هامة في كل هذه المجالات وكان لفايل مساهمة نقدية هامة لكل محاولات التسلط من الأنظمة الحديثة وسيقع تبنيها من المفكرين الكاتوليك إثر الحرب العالمية الثانية لتصبح أيقونتهم الفكرية.
إلا أن كاميسيعيد اكتشاف الفيلسوفة عديد الجوانب المغمورة في تفكيرها من خلال إعادة إصدار بعض مؤلفاتها وخاصة كتاب الطرف العمالي la condition ouvrière وهو عبارة عن جملة نصوص وملاحظات ...من خلال عيشها ومعاشرتها للطبقة العاملة في فترة ما بعد الحربين وقد تمكنت من خلال ملاحظاتها وكتاباتها من التأكيد على الإذلال والألم المعنوي الذي تعرفه هذه الطبقات الاجتماعية وهذا الكتاب سيكون وراء إعادة اكتشاف فايل من قبل القوى اليسارية وعودتها إلى صدارة النقاش الفكري وقد ساهمت فايل مساهمة كبيرة في نقد الفكر الماركسي الدغمائي الماركسي من خلال الدفاع على مبادئ الحرية.
هذه الآراء والأفكار جعلت من المفكر الكبير ألبرت كامي يعتبر فايل أحد أهم فلاسفة القرن العشرين لدرجة أنه استشهد بها في خطاب قبول جائزة نوبل الأدبية سنة 1957 وستبلغ كذلك فايل إحدى فلاسفة يسار اليسار بعد أن عرف الكثيرون أنها استضافت تروتتسكي في شقتها بعد هروبه من جحيم الستالينية ومشاركتها في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب الجمهوريين المعنيان الديني والمادي جانبين مهمين مازال تأثيرهما لليوم مهما وكبيرا في الفكر المعاصر.
هذه السلسلة حول الاستعمالات المتعددة والاستعارات المختلفة لكبار المفكرين اليوم من قبل قوى سياسية مختلفة وفي بعض الأحيان متناقضة تشير إلى جانبين مهمين الجانب الأول أن أفكار وآراء كبار الفلاسفة لا تشكل نسقا فكريا موحدا أو منغلقا فهي تحمل جوانب متعددة وفي بعض الأحيان قد تبدو متناقضة إلا أن هذا التناقض هو في رأيي تعبير على شك المفكر الكبير ورفضه على بناء أفكار نهائية وهذه سمة المفكرين الكبار وهي بناء أنساق فكرية مفتوحة ومتعددة يمكن استعارتها وتحويل وجهتها في بعض الأحيان من آراء ومشارب مختلفة.
النتيجة الثانية تخص أزمة الفكر المعاصر وعدم قدرته على تجديد نفسه لفهم التطورات الكبرى والتغييرات الجوهرية التي تمس العالم الموروث عن العدالة ودخوله إلى عالم جديد بعد ....هذه الأزمة تدفع للعديد على التهافت على آراء وأفكار بعض الفلاسفة حتى وإن اختلفوا مع لإيجاد بعض الإجابات عن تساؤلاتهم ومخاوفهم الفكرية.