قهوة الأحد: كرة القدم بين خجل المثقّف وَوَلَـهِ الشّعب

ككل التونسيين المولعين باللعبة الشعبية الأولى أحاول أن أسرق بعض الوقت لمتابعة بعض المقابلات من كأس أوروبا للأمم والكوبا أمريكا. وطبعا ليس من السهل إيجاد هذه الفسحة من الزمن باعتبار الأحداث السياسية في بلادنا بعد دعوة رئيس الجمهورية لتكوين حكومة وحدة وطنية

والتي أصبحت في الأيام الأخيرة محل اهتمام كل الناس وتساؤلاتهم وأحاديثهم. كذلك هاتين الدورتين بحلول شهر رمضان الذي يأخذ حيزا مهما في الحياة الاجتماعية ويترك بالتالي القليل لمتابعة هذه اللعبة.
كما تزامن أيضا هذان الحدثان الهامان مع انطلاق الحوار بخصوص تكوين حكومة الوحدة الوطنية والذي أخذ كذلك جزءا هاما من باقي الوقت الذي تركه لنا شهر رمضان وتخمتيْ الأكل والمسلسلات والكاميرات الخفية والتي تنافس أغلبها في الابتذال والرداءة والسطحية.

إذن وبالرغم من الالتزامات الاجتماعية والهموم السياسية الجديدة فقد نجحنا في إيجاد الوقت لمتابعة هذين البطولتين لتميزهما هذين السنتين فالكوبا أمريكا شملت في هذه النسخة كل بلدان القارة الأمريكية أما بطولة أوروبا للأمم فقد جمعت هذه السنة 24 فريقا. وقد تمتعنا والحق يقال منذ البداية بمقابلات هامة أنستنا قيمة اللعب وأخلاقيات وتعامل اللاعبين ضحالة وفشل وعجز كرتنا.

وكنت كلما تابعت دورة عالمية في كرة القدم، كأس العالم وبعض البطولات القارية ككأس أوروبا وإفريقيا والكوبا أمريكا، أتساءل دائما عن المفارقة التي نعيشها بين حب ووله عبادة الجماهير لكرة القدم لدرجة أننا نعتبرها اللعبة الشعبية الكبرى ورفض وهروب المثقف وخاصة الذين يعتبرون أنفسهم عضويين على تعبير قرامشي، من هذه اللعبة وتأففهم كلما دار الحديث عن كرة القدم. طبعا لا يمكن وضع كل المثقفين في نفس الموقع فبعضهم يتابع بكل اهتمام أخبار الكرة واللاعبين ولا يمكن أن تفوتهم أي مقابلة في كرة القدم. وأذكر على سبيل المثال لا للحصر بعض المثقفين الذين كانوا من عشاق كرة القدم كالكاتب الكبير Albert Camus والفيلسوف الإيطالي طوني نقري Toni Negrie وكان نقري فيلسوف أقصى اليسار الإيطالي خلال السنوات السبعين وهو صاحب نظرية

Opercusme والتي ترتكز على المؤسسات الصناعية كنقطة انطلاق لتغيير المجتمع. ثم أصبح اليوم بعد إصداره مع Michael Hardt لكتابين هامين Empire سنة 2004 وMultitude سنة 2004 منظر لحركات المناهضة للعولمة.

وقد شجن نقري في نهاية السبعينات من 1979 إلى سنة 1983 بتهمة الانتماء للتنظيمات الثورية والتي مارست العنف المسلح في تلك الفترة. وعُرف عن نقري عشقه لفريق الميلان أس Milan AC والذي كان فريق الطبقات الشعبية في مدينة ميلانو وكانت تجمعه علاقات صدامية مع الفريق الآخر لمدينة ميلانو وهو فريق أنترميلان والذي يعتبر فريق الطبقات البرجوازية في المدينة باعتبار أن عائلة الصناعي موراتي كانت تملكه في تلك الأيام الخوالي قبل أن تتغير الأشياء ويصبح فريق الشعب قاطرة بلرسكوني للوصول إلى السلطة. وفي إحدى أحاديثه الصحفية أشار نقري أن أصعب الأوقات بالنسبة له لما كان في السجن هو عدم قدرته على حضور الدربي بين فريقي ميلان والتهكم على الفريق المقابل وعجزه عن هزم فريق الشعب.

وإلى جانب اهتمام بعض المثقفين بالكرة ومتابعتهم لبعض المباريات والمقابلات فإن آخرين خصصوا لها كذلك بعض الدراسات والكتب. وقد أهدت لي زوجتي منذ أسابيع كتاب الفيلسوف الفرنسي Jean Philippe Tousaint بعنوان Football والصادر عن دار Minuit الفرنسية سنة 2015. وإلى اليوم وبالرغم من أهمية الكتاب والذي والحق يقال التهمته التهاما في بعض الأيام وتأكيداتها المتكررة أنها ليست نيتها فإنا مقتنع شديد بأنها طريقة تهكمية لنقد إدماني على الكرة.

وفي خانة اهتمام بعض المثقفين في بلادنا بكرة القدم لا بد أن أشير إلى الرواية الجديدة للصديق الأستاذ شكري المبخوت والصادرة منذ أيام عن دار التنوير للصديق النوري عبيد. وفي هذه الرواية بعنوان «باقندا» والتي سأعود إليها لاحقات يغوص شكري المبخوت في عالم كرة القدم في علاقة بالسياسة والجو العام الذي كان سائدا قبل الثورة.

هذه أمثلة على اهتمام بعض المثقفين بكرة القدم ويمكن أن أشير لآخرين لكن هذه الأمثلة تبقى محدودة والغالب على علاقة المثقفين بكرة القدم هو التأفف إن لم نقل الجفاء والرفض. أما المهتمون ولو قليلا بكرة القدم فإنهم يتعاملون مع هذه الهواية بكثير من الحياء أو الخجل وكثيرا ما يخفون هذا الاهتمام عن زملائهم المثقفين كي لا يتراجع احترامهم لهم كتراجع الدينار هذه الأيام.

وأسباب هذا الجفاء بين المثقف وكرة القدم في رأيي عديدة ويمكنني الإشارة إلى بعضها والسبب الأول في رأيي هو اعتبار عديد المثقفين أن كرة القدم هي أفيون الشعوب في العصور الحديثة. فهي تصرف الناس عن الاهتمام بالقضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية الأخرى. وينتج عن هذا الاهتمام والشغف والوله الذي يتجاوز الحدود تصحير وتجهيل وتبليد للذوق العام.

ومن أسباب هذا الجفاء بين المثقف وكرة القدم هو رفض الاختلاط بجماهير الملاعب والتي كثيرا ما تتصرف وتأتي بأفعال وعبارات وأفكار يشمئز منها السامع أو المتفرج فجمهور الكرة بصفة عامة هو جمهور يميل إلى العنف ومبادئ الرجولية التي تتجاوز الحدود لتصبح معادية لاحترام الآخر وبصفة خاصة المرأة والشوفينية ليصبح الانتظار لفريقه رفضا للآخر، لجهته ولونه ودينه، وهذه الطبيعة المحافظة والعنيفة وفي بعض الأحيان العنصرية لجمهور الكرة تزيد من رفض وتأفف المثقف من كرة القدم.

كما يمكن لنا أن نضيف سببا آخر وراء جفاء ورفض المثقف الحداثي لكرة القدم وهو السلوك الجمعي لجماهير الكرة فهذه الجماهير تتحرك وتتصرف بطريقة جماعية في ظل جمعيات المحبين ويغلب على هذا السلوك المنطق الهستيري الجماعي في التعاطي مع الآخر وبالخصوص في رفضه. وهذا السلوك هو في نهاية الأمر إحياء لروح الجماعة الطاغية في المجتمعات التقليدية في ظل المجتمعات الحديثة. ويشكل هذا السلوك رفضا وتراجعا عن الأنا وروح الفرد التي أتت بها الحداثة والتي تجعل من الأفراد أساس المجتمعات الحديثة والارتكاز الأساسي للديمقراطية واحترام الآخر والتعدد.

إن هذه المظاهر وبصفة خاصة طغيان الكرة على الدينامكية الاجتماعية وإعادة إحيائها للعلاقات التقليدية والمحافظة في صلب المجتمعات الحديثة هي وراء رفض المثقف الحداثي وتأففه من كرة القدم وأجواء الملاعب وهذا الزخم الشعبي الذي يصل في بعض الأحيان حد الهستيريا.

إلا أن هذا الجفاء والرفض لا يمكّن المثقفين من فهم هذه الظاهرة الاجتماعية والسياسية التي تمثلها كرة القدم والتي جعلتها في قلب العلاقات الاجتماعية. وهذا البعد لا يمكّن المثقف من تحليل رمزية كرة القدم في الديناميكية الاجتماعية مما يفسر اهتمام الناس بها وولههم بهذه الرياضة أكثر من غيرها من الرياضات الأخرى إلى حد أنها أصبحت اللعبة الشعبية الأولى في كل بلدان العالم.

وفي رأيي لا يمكن لنا فهم هذا الدور الذي أصبحت تلعبه هذه الرياضة في المخيال الشعبي على مدى أكثر من قرن من الزمن إلا بالرجوع إلى العلاقات الاجتماعية التي سادت المجتمعات المعاصرة منذ انتصار الثورات الصناعية وهيمنة العلاقات الرأسمالية. فقد نجحت هذه الثورات في فرض علاقات اجتماعية جديدة قوامها الانضباط في العمل وفي المجتمع وقد قلّصت هذه العلاقات من هامش الحرية الذي يتمتع به الناس في المجتمعات التقليدية وفرضت نسق عمل شديد تجاوز في بداياته 18 ساعة عمل يومية. وقد تطور هذا الانضباط ونسق العمل مع ظهور نظام تقسيم العمل الفوردي Fordiste نسبة إلى المهندس فورد والذي جعل من الإنتاجية وتقسيم العمل إحدى قوائم النظام الصناعي والمجتمعات الحديثة وقد نجح السينمائي شارلي شابلن في توجيه نقد لاذع في فيلمه «الأزمنة الحديثة» لهذه العلاقات الاجتماعية الجديدة وللنسق الرهيب والمرعب الذي فرضته في المصانع وفي المجتمعات بصفة عامة.

إلا أن هذه الهيمنة الاجتماعية أنتجت نقيضها وكانت وراء ظهور عديد الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية كالنقابات والتي حاولت كبح جماحها والتقليص من تأثيرها. وحاولت هذه الحركات خلق مجالات من الحرية والحلم في صلب المجتمعات الصناعية تمكّن الناس من الهروب من هذا الاستيلاب ومحاولة تقليص سيطرته. فكان العمل السياسي والإبداع الثقافي من ضمن مجالات هذا التحرر من هيمنة فردانية العلاقات الاجتماعية ولهذا السبب ارتبطت هذه المجالات بفكرة رفض وتحدي الوضع القائم ومحاولة إنتاج الحرية من خلال العمل على تغييره. وقد كانت كرة القدم إحدى هذه المجالات التي أفرزتها الديناميكية الاجتماعية للتحرر من هيمنة علاقات العمل ومن الاستيلاب الذي تفرضه في المجتمعات الحديثة. وأصبحت كرة القدم تدريجيا إحدى مجالات رفض السائد ومحاولة بناء علاقات اجتماعية جديدة قوامها التآخي والتعاون على غرار الثقافة والسياسة. فأمام الروتين الذي تسعى إليه علاقات العمل تدافع كرة القدم على الإبداع والخلق. وعوضا عن روح الفرد والشخصنة تنتصر كرة القدم إلى مبادئ التعاون وتدافع على المجموعة.

إذن يجد وله الناس بكرة القدم، وهو ما لم يعطيه المثقفون حق قدره، تفسيره في رمزيتها وكونها صارت مجالا من مجالات التحرر من علاقات الهيمنة وبناء حلم وأمل لعلاقات مختلفة ومغايرة.

وفي رأيي تكمن خصوصية كرة القدم إذا ما قارنّاها برياضات أخرى في ظهورها تاريخيا في المدن العمالية الكبرى في البلدان الصناعية المتقدمة كليفربول ومانشستر في بريطانيا وميلانو وطورينو في إيطاليا وسوشو ولونس وماتز ونانسي في فرنسا وقد ساهمت المؤسسات الصناعية في هذه المدن في تمويل فرق كرة القدم وجعلها المجال الوحيد للترفيه على النفس أيام الآحاد. إلا أنها من لعبة بسيطة دخلت وانخرطت في الحراك والديناميكية الاجتماعية لتصبح إحدى مجالات التحرر والهروب من سيطرة علاقات العمل ونسق الإنتاج. هكذا ارتبطت كرة القدم بآمال الناس لتصبح جزءا من حلمهم في بناء مجتمع آخر وعلاقات مغايرة تضمن لهم حريتهم وكرامتهم وانعتاقهم الاجتماعي. ومنذ ذلك الوقت ارتبطت كرة القدم بالسياسة وصارت في كنه وعمق النضالات السياسية على مد التاريخ والأعوام.

إن التطور الذي عرفته كرة القدم والوله الذي أصبحت تتمتع به عند الناس لتصبح اللعبة الشعبية الأول هو انخراطها في العملية الاجتماعية وصيروتها المعقدة لتحمل جزءا من آمالهم في التحرر والانعتاق وإن يسعى المال إلى استعادة هذا الهامش من الحرية والسيطرة عليه فإن هذه المحاولات لن تحط ولن تحد من كبح جماح هذا الحلم وجعل ملاعب الكرة إحدى مجالات تعبيره.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115