العالـم في عيني هنري كيسنجر

هنري كيسنجر هو بالتأكيد الشخصية التي كان لها أكبر التأثير في السياسة الخارجية الأمريكية وفي نظرة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم خلال الستين سنة المنقضية وذلك لثلاثة أسباب على الأقل. الأول أنه لعب دورا هاما كمنظّر ومفكّر في العلاقات الدولية في نحت معالم السياسة الخارجية والنظام العالمي.

فبعد انتهاء دراسته وحصوله على الدكتوراه من جامعة هارفارد المشهورة انتقل إلى موقع التدريس الجامعي ليصبح أهم الأساتذة الجامعيين في العلاقات الدولية. وقد شهد له الكثير بسعة معرفته السياسية والتاريخية والفكرية التي جعلت نجمه يسطع كأحد أهم المفكرين في العلاقات الدولية منذ نهاية الخمسينات وفي الستينات. ولعل ولادته في أوروبا ثم هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية إثر بداية صعود النازية ساهمت في تدعيم تفكيره باعتباره كان مطلّعا على التفكير الأوروبي في العلاقات الدولية ثم استوعب التقاليد الفكرية الأمريكية ليكون عمله الفكري وبحوثه متشبعة بأهم التطورات الفكرية العالمية.

 

الجانب الثاني والذي يفسر تأثير كيسنجر أو الداهية كما كان يسميه بعض الملاحظين والصحافيين هو انتقاله من موقع المفكر المنظر إلى موقع الممارس العملي من خلال تحمله لعديد المسؤوليات الهامة في النظام الأمريكي في مراحل مفصلية من تاريخ العالم. فقد تحمل مسؤولية مستشار الأمن القومي من جانفي 1969 إلى نوفمبر 1975. ثم أصبح وزير الخارجية الأمريكي من سنة 1973 إلى سنة 1977 تحت رئاسة الرئيس الأمريكي نيكسون ثم واصل بعد استقالته إثر فضيحة واترغايت مع خليفته الرئيس فورد. وقد ساهم خلال فترة تحمله هاتين المسؤوليتين في تحديد الموقف الأمريكي من عديد القضايا الهامة التي عرفها العالم في تلك الفترة نذكر منها الحرب الفيتنامية، حرب أكتوبر 1973 وبصفة خاصة الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية في بداية السبعينات. كما لعب دورا هاما في التقارب الصيني الأمريكي في نفس الفترة أو ما سماه البعض ديبلوماسية كرة الطاولة باعتبار أن التضارب انطلق بزيارات ومقابلات في كرة الطاولة بين البلدين. كما كان لكيسنجر دور في سياسة الانفراج النووي بين قطبي الحرب الباردة في تلك الفترة الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية. الجانب الثالث والذي يفسّر تأثير كيسنجر في السياسة الخارجية الأمريكية فهي انه لم ينسحب من الشأن العام بعد خروجه من وزارة الخارجية سنة 1977 بل واصل انخراطه في النقاش العام والفعل العام عبر تكوينه لمكتب تأثير وضغط «لوبي» وسماه Kessinger and associates والذي سيواصل عبره الخوض في القضايا المرتبطة بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة بصفة خاصة عند وجود الجمهوريين في البيت الأبيض.

وهذا التأثير الهام على السياسة الخارجية الأمريكية جعل شخصية هنري كيسنجر محل جدل ونقاش وفي بعض الأحيان محل نقد عنيف من قبل عديد الأحزاب والمنظمات في المجتمع المدني وكذلك الناشطين السياسيين في الولايات المتحدة وكذلك خارجها. وقد نال كيسنجر في منطقتنا العربية نقدا هاما باعتبار أن الكثيرين يعتبرونه مدافعا بدون حدود عن دولة إسرائيل وبسبب تنظيمه لجسر عسكري جوي لإعطائها ما تستحقه من المعدات والسلاح للوقوف أمام الجيوش العربية في حرب 1973. وحسب عديد الملاحظين فإن هذا الدعم أنقذ إسرائيل من هزيمة كبيرة وأعاد موازين القوى لفائدتها. كما وجه نقد عنيف لكيسنجر في البلدان العربية للدور الذي لعبه لإقناع الرئيس المصري أنور السادات بإبرام الصلح المنفرد مع إسرائيل وزيارة تل أبيب وإلقاء الخطاب أمام الكنيست.
ومما يتعارف عليه فقد كان لكيسنجر تأثير كبير على الرئيس المصري أنور السادات وقد تواصلت هذه العلاقة حتى بعد خروجه من الخارجية. وقد استعمل هذه العلاقة للتأثير عليه للاتفاق على صلح منفرد بدون البلدان العربية الأخرى في كامب ديفيد سنة 1973 مع الوزير الأول الإسرائيلي في ذلك الوقت مينا حيم بيغن وتحت إشراف الرئيس الأمريكي جيمي كارتر.

وهو ما نتج عنه إقصاء مصر من المجموعة العربية وخروج الجامعة العربية من مصر إلى تونس سنة 1979.

إلا أن النقد الموجه لكيسنجر لن يقتصر على المنطقة العربية، فقد تم اتهام كيسنجر بمساهمته في أخذ قرار قصف الطيران في الحرب الفيتنامية بين سنتي 1969 و1975. كما يشير آخرون إلى الدور النفسي الذي لعبه في الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية ضد الأنظمة الديمقراطية وبصفة خاصة في انقلاب الجنرال بينوشيه على الرئيس المنتخب سلفا دور آليندي سنة 1973 من الشيلي. ويتهمه العديد بدعمه للرئيس الأندونيسي سوهارتو أثناء لقائه مع الرئيس فورد سنة 1975 بقرار ضم مقاطعة تيمور الشرقية إلى أندونيسيا والحرب التي نتجت عنها والتي ذهب ضحيتها قرابة 200 ألف شخص.

ولكن هذا النقد والجدل لم يمنعا كيسنجر من الحصول على جائزة نوبل للسلام سنة 1973 والتي تقاسمها مع المعارض Le Duc Fho الذي مثّل فيتنام الشمالي في المفاوضات والذي رفضها لاعتباره أن الحرب لم تنته.
هذه التجربة السياسية الكبيرة والخبرة والحنكة في العلاقات الدولية إلى جانب معرفته الفكرية والنظرية جعلت من هنري كيسنجر شخصية محورية في العلاقات الدولية وجعل العديد من المختصين والمسؤولين والمهتمين بهذه القضايا ينتظرون كتاباته باهتمام كبير. وقد أصدر كيسنجر العديد من المؤلفات التي لاقت نجاحا كبيرا من ضمنها مذكراته في البيت الأبيض، وكتاب عن الديبلوماسية ثم كتاب عن القوة الأمريكية الجديدة. كما أصدر كتابا حول طريقة أو منهجية الخروج من الأزمات وأخذ مثال (حرب 1973 وحرب الفياتنام سنة 1975) واهتم في كتابه الأخير والصادر سنة 2012 بتطور الصين.

وقد أصدر كيسنجر كتابا جديدا بعنوان « L’ordre du monde » أو النظام العالمي ترجمته وأصدرته دار F ayard الفرنسية منذ أيام. وقد لقي هذا المؤلف الجديد منذ صدوره اهتماما كبيرا على المستوى العالمي. وكعادة كتب كيسنجر فقد جمع هذا الكتاب عصارة تجربته الديبلوماسية وممارسته للعلاقات الدولية إلى جانب معرفته التاريخية والسياسية.

لن نتناول في هذا المقال كل الجوانب التي تعرض لها كيسنجر في كتابه بل سنؤكد على ثلاث مسائل أساسية تهم في رأينا القارئ العربي. المسألة الأولى تهم تطور النظام العالمي وكل التحديات التي واجهها في تاريخيه الطويل وفي رأي كيسنجر فإن النظام العالمي الحالي هو وريث صلح واستفالي (westphalier) الذي جاء لينهي حرب الثلاثين سنة بين الكاثوليك والبروتستانت وتم إمضاؤه سنة 1948. ويعتبر هذا النظام الجديد أن الدولة الوطنية هي أساس العلاقات الدولية ويقوم هذا النظام العالمي على بعض المبادئ الأساسية وهي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، احترام حدود الدول، احترام السيادة الوطنية للدول وتشجيع القانون الدولي واعتماده في حل الإشكالات والخلافات بين الدول. وقد ساهم عديد الفلاسفة والمفكرين السياسيين كهوبس (Hopes) والفيلسوف الألماني كانط في كتابه حول

النظام العالمي والسلم العالمية في إعطاء هذا النظام مشروعيته الفكرية والنظرية واعتباره أساسا لبناء نظام دولي وعلاقات بين الدول تتسم بالتعاون والتآزر والسلم. وقام كيسنجر بقراءة تاريخية لتطور هذا النظام العالمي والتحديات التي عرفها منذ بداياته وأولها كانت الحرب التي خاضها نابليون بونابرت إثر الثورة الفرنسية لتوحيد أوروبا حول مبادئ النظام الحداثي والتي انتهت بهزيمته وإمضاء اتفاق فيينا سنة 1814 والذي أكد مبادئ النظام الوستفالي. وقد عرف هذا النظام عديد الأزمات الكبيرة الأخرى كالحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وقد قام كيسنجر بقراءة هامة ومستفيضة لهذه الفترات التاريخية تنم عن ثقافته الواسعة بالجوانب التاريخية والسياسية. ولم يكتف بهذه الجوانب لفهم تطور النظام العالمي بل ذهب إلى قراءة مكونات الشخصية الداخلية لعديد الشعوب كالروس والهند والصين والعرب لفهم انعكاسات هذه العناصر على فهمهم وقراءتهم للعلاقات الدولية. وقدّم لنا كيسنجر إحدى أهم القراءات التي اطلعت عليها في فهم تطور المجتمع الدولي والنظام العالمي وتشابك التاريخي والسياسي والفكري وحتى مكونات الشخصية في الحركة التاريخية وديناميكيته. وهذه القراءة خلصت إلى أنه بالرغم من التحديات والصعوبات فقد نجح النظام الوستفالي والدولة الوطنية والقانون الدولي في البقاء كأسس للعلاقات الدولية وللنظام العالمي.

كما يقوم كيسنجر بقراءة هامة للوضع العالمي الحالي ليؤكد أنه يمر بأزمة كبيرة ناتجة عن تطور موزاين القوى في النظام الدولي ثم تآكل مشروعية هذا النظام لدى شعوب كبيرة ويشير أن مظاهر هذه الأزمة تبرز في تراجع وتآكل الدولة للوطنية وتنامي العولمة الاقتصادية وبقاء السياسي وانحساره على المستوى الوطني ثم تراجع المؤسسات الدولية السياسية والاقتصادية وعدم قدرتها على حل التحديات العالمية. وينادي كيسنجر إلى ضرورة بناء نظام عالمي جديد يعطي بعدا جديدا للنظام العالمي وللتعاون والسلم في العالم.
الجانب الثاني الذي أريد الإشارة إليه هو النظرة الأمريكية للعالم للعلاقات الدولية وقد قام كيسنجر بقراءة تاريخية هامة لا بد لكل مهتم بالعلاقات الدولية من الاطلاع لفهم أسس وفلسفة واختيارات السياسة الخارجية لهذه القوة العظمى ورؤيتها للنظام الدولي ويؤكد كيسنجر أن نظرة أمريكا للعالم تحكمها الفلسفة والجغرافيا والسياسة.

أما من ناحية الفلسفة فإن النظام الأمريكي مقتنع تمام الاقتناع أن مبادئ الحرية المطلقة والتعدد التي قام عليها هي مبادئ كونية يجب الدفاع عليها على المستوى العالمي وهي الوحيدة القادرة على إحلال السلم في العالم من خلال احترام الفرد وحماية حريته. وبالتالي ستعمل الإدارة الأمريكية على الدفاع على هذه المبادئ وجعلها أسس علاقاتها الدولية.

الناحية الثانية وهي الجغرافيا وهنا يشير كيسنجر أن الولايات المتحدة هي قارة بذاته وهي محاطة بحماية هامة أي المحيطين مما يجعلها بعيدة ومستقلة عن صخب العالم وهذا الوضع الجغرافي جعل من الأمريكان يعتقدون أن عناصر القوة تكمن في بناء النظام الداخلي ودعمه وهي التي ستعطي القوة الكافية للنظام للهيمنة على النظام العالمي كما أن الموقع الجغرافي يفسر في – بعض الأحيان رفض الحكومات الأمريكية الانفتاح على العالم ومحاولتها الانعزال عنه-.

أما الناحية الثالثة فهي السياسة وهنا يشير كيسنجر أن التواجد الأمريكي في الخارج محكوم بثنائية المبادئ الكونية التي دافع عنها الرئيس ويلسون Wilson والدفاع عن المصالح الإستراتيجية التي دافع عنها الرئيس Roosvelt والتي تفسر تدخل الولايات المتحدة في كل مناطق العالم.

والمسألة الثالثة التي نريد الإشارة إليها في هذا الكتاب هي نظرته للمنطقة العربية والتي خصها بحيز هام من كتابه وفي تقديري فإن قراءته لتاريخ المنطقة وحاضرها ينخرط في قراءات المستشرقين التي تؤكد أن الحضارة العربية ستبقى مستعصية على الديمقراطية والتعدد وهي ستبقى محكومة بالمطلق الديني ويشير كيسنجر أن المنطقة العربية هي في أزمة تاريخية وهي حبيسة مجدها السابق وعجزها ووهنها وضعفها الحالي والإسلام السياسي والإرهاب هو وليد هذه الأزمة وسيواصل حربه وتهديده للنظام العالمي.

وقد خصص كيسنجر جزءا من كتابه للحديث عن ثورات الربيع العربي وقدرتها على القطع مع الاستبداد وإرساء الديمقراطية في ربوعنا. وهنا يعبّر كيسنجر عن شكّه وارتيابه في قدرة هذه الثورات على النجاح ويشير أنها فتحت الباب للإرهاب والإسلام السياسي والفوضى في المنطقة. ويؤكد عدم ثقته في مستقبل الثورات العربية وقدرة الشعوب العربية على بناء الديمقراطية. ويذهب به هذا الشك حد التساؤل عن جدوى مساندة الولايات المتحدة لهذه الانتفاضات.

هذه بعض الأفكار والآراء التي وردت في كتاب أحد أهم المؤثرين في السياسة الخارجية الأمريكية وإن يشير الكتاب إلى سعة تجربة كيسنجر وعمق معرفته النظرية والتاريخية والفلسفية فإنه كذلك يبيّن عدم قدرته على التخلص من القوالب الفكرية الجاهزة بصفة خاصة علو الذات في النظرة للآخر كما هو الحال بالنسبة للمنطقة العربية مما دفع السياسة الخارجية إلى النأي بعيدا عن المبادئ والانخراط والانغماس في الاختيارات الاستراتيجية ولغة السلاح كما كان الشأن في حربي العراق. هذه القراءة تشير أن إعادة بناء النظام العالمي على أسس التعدد والتعاون واحترام اختيارات الآخر هي لاتزال مطروحة وتتطلب كل جهودنا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115