قهوة الأحد: كيف ينظر الأمريكان لنا؟

كنت هذا الأسبوع في العاصمة الأمريكية واشنطن للمشاركة في اجتماعات اللجنة الاقتصادية المشتركة بين تونس والولايات المتحدة الأمريكية ضمن وفد القطاع الخاص التونسي والذي نظمته غرفة التجارة التونسية الأمريكية وقد قامت الغرفة بإعداد جيد منذ أسابيع لهذه المشاركة بإعداد عديد الدراسات

والمقترحات تحت إشراف رئيسها السيد خالد ببّو والتي ساهمت في إثراء النقاشات حول أحسن السبل لتطوير علاقات التعاون الاقتصادي بين بلادينا والولايات المتحدة كما أعجبني العمل الهام الذي قام به وفد الغرفة في العاصمة الأمريكية والمكوّن من عديد الفاعلين الاقتصاديين ورجال الأعمال الشبان ووزيرين سابقين هما السيد محمد النوري الجويني وكاتب هذه السطور على هامش أشغال اللجنة المشتركة والصراحة وفي نفس الوقت المسؤولية والذكاء الذي دافعوا به على مواقفهم وعلى ضرورة تطوير علاقات التعاون الاقتصادي بين البلدين ودرس إمكانيات دعم الاستثمار وفتح الأسواق التجارية وبصفة خاصة السوق الأمريكية أمام صادراتنا.

كانت للوفد عديد اللقاءات مع صانعي القرار الأمريكي في عديد المؤسسات من البيت الأبيض مع أحد أقرب مساعد والرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الخارجية الأمريكية إلى وزارة المالية أو مختلف المسؤولين على التجارة الخارجية الأمريكية كما كان للوفد لقاءات هامة مع ممثلي ومسؤولي القطاع الخاص الأمريكي وكذلك مسؤولي بعض مراكز البحوث والمؤسسات البحثية أو Think Tanks المهتمة بتونس وببلدان الربيع العربي بصفة عامة كانت هذه اللقاءات مهمة وكانت النقاشات فيها صريحة مباشرة وتمكن هذه الاجتماعات مع هذه القطاعات الواسعة من تحديد رؤية النظام الأمريكي أي مختلف المؤسسات الأمريكية لبلادنا ولعملية التحول الديمقراطي التي نعرفها منذ 2011 ويمكن في رأيي أن نحوصل هذه النظرة الأمريكية لبلادنا في بعض الأفكار الأساسية الفكرة هي الاهتمام والإعجاب الذي نجده عند السلطات الأمريكية وصانعي القرار الأمريكي في كل المستويات بالثورة التونسية وبتجربة التحول الديمقراطي في بلادنا وهذا الاهتمام والدعم لم يفترض بالرغم من العثرات التي عرفتها بلادنا والتحدي الإرهابي وخاصة طول المرحلة الانتقالية وقد أعادت

تجربة التحول الديمقراطي لبلادنا بريقها لدى الطبقة السياسية الأمريكية وقطاعات واسعة من الشعب الأمريكي بعد سنوات من التهميش وعدم الاهتمام ويعيدنا الوضع الذي عليه صورة بلادنا هذه الأيام إلى التاريخ القريب والصورة النيّرة التي كانت لبلادنا في الولايات المتحدة بعد الاستقلال وكلنا يتذكر الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس بورقيبة في بداية الستينات والاستقبال الذي لقيه من الرئيس الراحل جون كينيدي والحفاوة الشعبية التي حظي بها في هذه الزيارة إلا أن هذه الصورة الإيجابية لتونس شهدت الكثير من التراجع وأصبحت باهتة مع تراجع الحريات في بلادنا وصمود الآلة القمعية ولعل البرود الذي عرفته زيارة الرئيس السابق للولايات المتحدة سنة 2004 أبرز تعبير عن التدهور الكبير الذي عرفته صورة بلادنا لدى أبناء «العم سام» وفي رأيي ساهمت الثورة وعملية التحول الديمقراطي في إعادة بريق صورة بلادنا واحترام عديد القطاعات الأمريكية لها.

• الفكرة الثانية هي قناعة تتقاسمها كل الجهات والمؤسسات الأمريكية وهي أن التجربة التونسية في التحول الديمقراطي في بلدان الربيع العربي هي الوحيدة القادرة على النجاح وبناء مجتمع ونظام سياسي يتقاسم مع النظام الأمريكي والبلدان الغربية بصفة عامة المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وهذه القناعة تفسر الدعم المتواصل من الجانب الأمريكي لبلادنا بالرغم من صعوبات المرحلة الانتقالية وفي بعض الأحيان عثراتها.

• المسألة الثالثة تهم تجربتنا في التعاطي مع الإسلام السياسي ودخوله إلى الحياة السياسية القائمة على الديمقراطية وأصبحت تونس مخبرا سياسيا يتابعه الجانب الأمريكي والبلدان الغربية الأخرى في انغماس الإسلام السياسي ودخوله في معترك الحياة الديمقراطية ليصبح حزبا «عاديا» ككل الأحزاب الأخرى ويبتعد تدريجيا عن الجانب الدعوي والإيديولوجي وتعتبر بلادنا هي البلاد العربية الوحيدة التي تشهد هذه التحولات السياسية الهامة في المشهد السياسي وتطور الإسلام السياسي نتيجة نقاشاته الداخلية وبارتباط بالحركة الاجتماعية وبضغط وتعاطي الأحزاب الديمقراطية وحركة المجتمع المدني. وهذه المسألة الهامة باعتبارها تؤكد عدم تعارض الإسلام والديمقراطية كما يشير إليه العديد من المستشرقين الذين يؤكدون أنه لا مجال لفصل السياسة عن الدين في الإسلام وتبقى الخلافة هي نظام الحكم الوحيد في ربوعنا والتجربة التونسية هي بالأهمية مكان باعتباره تنفي هذا التعارض لتؤكد كونية المبادئ الديمقراطية وقدرة البلدان العربية على الخوض فيها والتعاطي معها.

• المسألة الرابعة تخص نسق التحول الديمقراطي وبصفة خاصة الإصلاحات الاقتصادية وهنا نرى عديد الأطراف في المؤسسات الأمريكية أن هذا النسق شديد البطء ولا يتميز بالنجاعة والسرعة الكافية كي يعطي نتائجه ويساهم في دفع النمو وخلق مواطن الشغل للخروج من أزمة البطالة ومن هنا تأتي التأكيدات والإشارات إلى ضرورة الإسراع بهذه الإصلاحات حتى يتمكن اقتصادنا من الاستفادة منها.

إذن استطاعت بلادنا أن تحسن من صورتها وردت لها بريقها المفقود إثر الثورة وبداية التحول الديمقراطي على المستوى العالمي وبصفة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وأصبحت لبلادنا قيمة رمزية كبيرة باعتبارها لا فقط كانت وراء انطلاق ثورات الربيع العربي بل لنجاحها في المضيّ قدما في عملية التحول الديمقراطي وقدرتها على تجنب الانحراف والحروب والمآسي التي تعيشها عديد البلدان الأخرى كليبيا وسوريا واليمن وهذا المسار يفسر بالرغم من صعوباته الدعم الكبير الذي تلقاه بلادنا من الجانب الأمريكي على عديد المستويات ومنها السياسي والأمني والعسكري والمالي والاقتصادي وهذا الدعم له ينفي النقد والدعوة إلى التسريع في نسق الإصلاحات الاقتصادية.

وكي نفهم هذه القيمة الرمزية التي تتمتع بها بلادنا اليوم عند صانعي القرار في الدوائر الأمريكية لا بد من العودة ولو بسرعة لبعض مراحل التواجد الأمريكي في المنطقة العربية وتطوره وهذا التواجد والاهتمام يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة الأمريكية كقوة كبرى وأخذت مكان بريطانيا كقوة مهيمنة في النظام العالمي وزعيمة المنظومة الغربية في مواجهة المعسكر الاشتراكي بقيادة الأنحاء السوفياتي وقد عرفت هذه الفترة صعود الحركة الوطنية وقضايا التحرر الوطني ضد الاحتلال والتواجد الأجنبي في عديد البلدان العربية. وغياب التاريخ الاستعماري جعل الولايات المتحدة تساند عديد الحركات والبلدان المستقلة حديثا في المنطقة ونذكر على سبيل دعم الإدارة الأمريكية لموقف تونس إثر اعتداء ساقية سيدي يوسف وخاصة موقفها المساند وتمحورت أهداف السياسة الأمريكية في المنطقة منذ بداية الستينات حول ثلاث مسائل أساسية.

الأولى حماية الوصول وتلبية حاجياتها الأساسية من المواد الأولية وبصفة خاصة من البترول الثانية هي وضع حد التوسع السوفياتي في المنطقة والذي وجد في الأنظمة القومية والبعثية كالعراق وسوريا وليبيا ومصر الناصرية حلفاء له والثالثة هي حماية ودعم الحليف الاستراتيجي إسرائيل ولتحقيق هذه الأهداف وجدت الولايات المتحدة في عديد الأنظمة الخليجية المصدرة للبترول ومصر الساداتية حلفاء لها ودفعت هذه التحالفات الولايات المتحدة إلى توفير الدعم والحماية لهذه الأنظمة وحتى تشكيل تحالفات دولية والدخول في حروب عندما تم تهديد مصالح هذه الدول كما تم ذلك في حربي الخليج الأولى والثانية ودفعت لعبة التحالفات الاستراتيجية الولايات المتحدة والمنظومة العالمية إلى التغاضي عن تعارض سياسات حلفائها مع أبسط المبادئ الديمقراطية. إلا أن هذا الوضع بدأ يشهد الكثير من التطور والتغيير منذ بداية الألفية لسببين على الأقل أولهما هو صعود الإرهاب والحركات الجهادية والتي أصبحت تهدد المصالح الأمريكية بطريقة مباشرة ولعل الاعتداءات الإرهابية لــ 11 سبتمبر 2001 أكبر دليل على ذلك. وبالعودة لمسارات وجنسيات العناصر الإرهابية ظهرت أن أغلبهم قادم من البلدان الحليفة والتي أصبحت مصدرا للحركات والعناصر الجهادية في المنطقة والعالم.

• المسألة الثانية والتي أصبحت مقلقة وكثيرة الإزعاج في الأوساط الأمريكية هي عدم استعداد البلدان العربية للانفتاح الديمقراطي والانخراط في المبادئ الليبرالية على المستويين السياسي والاقتصادي والتي تشكّل الركائز الأساسية للنظام الأمريكي وقد زاد نمو الاستبداد وتفشي الفساد في السنوات الأخيرة في البلدان العربية في توسع الهوة مع الولايات المتحدة الأمريكية وصار الأصوات النقدية الخافتة لنظامنا السياسي أكثر وضوحا وعلى أعلى المستويات ولعل آخر مثال على ذلك هو خطاب القاهرة الشهير للرئيس أوباما في 2009 والذي أكد فيه أن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية ودعا البلدان العربية على ضرورة القيام بالإصلاحات الديمقراطية الضرورية.

وفي هذا الإطار التاريخي رحّبت الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي بثورات الربيع العربي واعتبروها أحد أهم التطورات التي عرفها العالم في هذا القرن فقد فتحت هذه الثورات فترة جديدة في التاريخ السياسي للمنطقة أصبحت فيه مبادئ الديمقراطية والتعدد واحترام حقوق الفرد مبادئ داخلية وليست مستوردة كما عملت عديد الأنظمة على ترويجه في السابق وقد نفت هذه الثورات مسألة الخصوصية العربية والتي استعملتها الأنظمة لدحر ورفض مبادرات التحول الديمقراطي وكان لتونس قيمة رمزية باعتبارها أعطت نقطة الانطلاق لهذه القطيعة الجذرية في النظام السياسي العربي وأثبتت كذلك قدرتنا على إنجاح هذا التحول والبناء الديمقراطي وهذا ما يفسر الاهتمام والإعجاب الذي تحظى به تونس في المجتمع الأمريكي وعند النخب والطبقة السياسية وكان هذا الاهتمام وراء الدعم الذي لقيناه منذ 2011 على عديد المستويات كالسياسي والأمني والعسكري والتقني والمالي.

إلا أنه في رأيي وكما عبّر وفد رجال الأعمال وكذلك الدولة التونسية في اجتماعات هذا الأسبوع فإنه لا بد من فتح آفاق أرحب وأكبر لعلاقات التعاون بين بلادنا والولايات المتحدة الأمريكية وقد تم تقديم عديد المقترحات في هذا الاتجاه ترمي إلى فتح الأسواق الأمريكية أمام صادراتنا في إطار اتفاقية تبادل حر ودفع الاستثمار بين بلدينا لأن دفع المبادلات التجارية وصادرتنا نحو السوق الأمريكية والاستثمار من شانهما دفع النمو وخلق مواطن الشغل ودعم التحول الاقتصادي الذي يشكّل الركيزة الأساسية لنجاح التحول الديمقراطي في بلادنا.

تونس في 7 ماي 2016

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115