فرنسا: الإرهاب، العنف والإسلام

لفرنسا ميزة خاصة مقارنة بالبلدان المتقدمة الأخرى وهي أهمية المساجلات والجدل الفكري والثقافي في الخطاب والنقاش العام. فلا تخلو سنة من جدل فكري يقيم الساحة الفكرية ولا يقعدها. ونذكر على سبيل المثال في السنة الفارطة النقاش والجدل الذي أثاره المفكر Emmanuel Todd

بعد نشر كتابه «ما بعد شارلي» والذي انتقد فيه بشدة التوافق الذي ظهر في فرنسا بعد الاعتداء الإرهابي على أسبوعية Charlie Hebdo واعتبر أن الدولة الفرنسية لا تأخذ بعين الاعتبار وبالجدية الكافية قضية تهميش أبناء الجاليات الإسلامية في ضواحي أكبر المدن الفرنسية والتي تشكّل نقطة انطلاق هؤلاء الشباب نحو الحركات الإرهابية.

كما نذكر كذلك في السنة الفارطة الجدل الهام الذي عرفته الساحة الفكرية والسياسية الفرنسية حول تراجع فرنسا أو ما سمّي بــــ «le déclin de la France» ويؤكد هذا الجدل حول وضع فرنسا الحالي وتراجعها على كل المستويات منها السياسي والاقتصادي والفكري وقد ساهم في هذا الجدل الكثير من الكتّاب والنقّاد والذين أكدوا أن السياسات الاقتصادية لعديد الحكومات الأخيرة وبصفة خاصة الحكومات الاشتراكية ساهمت في هبوط فرنسا وحضورها على المستوى العالمي والأوروبي ودافع هؤلاء عن ضرورة ضبط سياسات جديدة لإعادة لفرنسا بريقها وإشعاعها السابق عديد الكتّاب الآخرين رفضوا هذه الفكرة واعتبروا أن فرنسا جزء من عالم متغير تميز ببروز قوى سياسية واقتصادية جديدة كالبلدان الصاعدة وأكد هؤلاء أنه لا يمكن العودة بالتاريخ إلى الوراء وإلى الفترة التي كانت فيها فرنسا تسيطر على العالم إلى جانب القوى الرأسمالية الأخرى كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

إذن تعيش فرنسا منذ قرون على وقع الجدل الفكري والثقافي والذي يأخذ حيّزا هاما في النقاش العام ويساهم الصحافيون وكبرى وسائل الإعلام والقنوات التلفزية في التعريف بهذه النقاشات وإعطائها المكانة اللازمة لتصبح قضايا الساعة وحديث القاصي والداني وتساهم في تنشيط الحياة الفكرية والثقافية وهذا الجدل ليس ترفا فكريا فكثيرا ما يؤثر في السياسات العامة والتوجهات الكبرى في فرنسا.

أما الجدل الذي تعيش على وقعه فرنسا فهو يهمنا باعتباره يشق الدراسات الإسلامية ويهم قضية علاقة العنف بالإسلام بعد تواتر الاعتداءات الإرهابية في الأشهر الأخيرة لما يسمى بحركة الدولة الإسلامية أو تنظيم داعش في العديد من البلدان من ضمنها تونس وفرنسا وبلجيكيا والسؤال المطروح والذي يدور حوله الجدل هو معرفة هل أن أساس الإرهاب للحركات الجهادية هو العنف أم الدين؟

الإجابة على هذا السؤال كانت وراء معركة فكرية رهيبة تجاوزت في بعض الأحيان الحدود الدنيا للاحترام بين أهم باحثين من فرنسا في الدراسات الإسلامية وهما جيل كيبل Gilles Kepel وأوليفي olivier وروا roy .

وانطلقت هذه المعركة إثر الهجوم الإرهابي على مدينة باريس يوم 13 نوفمبر 2015 وقد أثار هذا الهجوم العديد من التساؤلات حول هوية الإرهابيين والأسباب التي دفعتهم للقيام بهذه العملية وقد فتحت الصحف والمجلات وكل وسائل الإعلام أبوابها للمختصين والباحثين والجامعيين لفهم هذه الاعتداءات وكتب روا مساهمة هامة حول هذه الاعتداءات في جريدة لوموند اليومية ليوم 25 نوفمبر 2015 أكد فيه أن الجهاد هو ثورة عدمية ولكنه سيدافع في هذا المقال عن موقف سيثير ضجة كبيرة في النقاش العام في فرنسا وسيكون وراء هذه المعركة الفكرية الطاحنة مع جيل كيبل ففي هذا المقال سيشير أن ما نشاهده من تطور للحركات الجهادية وللعنف الإرهابي هو في الحقيقة ليس نتيجة لراديكالية الإسلام بل هو أسلمة العنف والراديكالية
«Il ne s’agit pas de la radicalisation de l’islam, mais de l’islamisation de la radicalité ».

ماذا تعني هذه الفكرة؟ في رأي روا العنف الإرهابي والجهادي ليس مرتبطا بالدين وليس نتيجة للتطورات التي عرفتها الحركة الإسلامية فالعنف في رأيه هو تعبيرة عن ثورة الجيل الحالي للشباب وقد عرفت أوروبا والعالم عديد الثورات ولجوء الشباب إلى العنف المسلح -ويشير إلى الثورات المسلحة في أمريكا اللاتينية والتي التجأت إلى الكفاح المسلح لإسقاط الأنظمة متأثرة بالأفكار الماوية أو القيفارية- وقد شكّل نجاح الثورة الكوبية بقيادة فيدال كاستور وآرنستو تشي قيفارا مثالا هاما وشجّع هؤلاء الشباب على المضيّ في هذا الطريق إلا أن هذه الحركات وصلت إلى طريق مسدود وشكّلت النهاية المأساوية لتشي قيفارا في 8 أكتوبر 1967 في غابات بوليفيا بداية أفول هذه الأفكار ونهج الكفاح المسلح في التغيير السياسي.

وبالرغم من الهزائم التي عرفها نهج الكفاح المسلح في أمريكا اللاتينية فقد اختارت بعض المجموعات الراديكالية هذا الطريق في أوروبا في نهاية الستينات في ألمانيا كمجموعة بادر مينهوف أو الألوية الحمراء في إيطاليا وعرفت هذه الحركات نفس النهاية وكان الموت والسجن والمنافي مصير مناضليها.ويؤكد روا في مقاله أن الحركات الجهادية هي من نفس طينة هذه الحركات العنيفة التي عرفها العالم وأوروبا منذ عقود فبالرغم من الاختلاف الإيديولوجي فيما بينها فالحركات الثورية في أوروبا وأمريكيا اللاتينية تنهل من الفكر الماركسي بينما يشكّل الدين وبصفة خاصة الإسلام مرجع الحركات الجهادية فإنها تلتقي في كونها تعبّر عن رفض قطاعات من الشباب المهمش للأنظمة الاجتماعية التي يعيشون فيها واستعدادهم إلى اللجوء إلى العنف المسلح وفي بعض الأحيان الانتحاري للتعبير عن هذه الثورة والقطع مع هذه الأنظمة إذن الالتجاء إلى العنف للتعبير عن الثورة هو الخيط الرابط بين هذه الحركات وما نشاهده اليوم حسب روا هو أسلمة العنف وهذا العنف هو مخزون تاريخي وسوسيولوجي عند الحركات الشبابية الرافضة للأنظمة القائمة ويأخذ أشكالا إيديولوجية مختلفة حسب الفترات التاريخية من الماركسية والماوية إلى الإسلام.

أثارت هذه القراءة الكثير من النقاش والجدل في أوساط المفكرين والسياسيين بين مساند ومناهض وجاء الرد الأكثر شراسة من جيل كيبل الذي اعتبر أن هذه القراءة لا تنم عن فهم معمّق للظاهرة الإسلامية ولتطور الحركات الإسلامية منذ عقود واعتبر جيل كيبل في مجموعة من المقالات والمقابلات الصحفية ثم في مؤلفه الأخير « Terreur dans l’hexagone» أن العنف الجهادي هو وليد ونتيجة للتطور التاريخي الذي عرفته حركات الإسلام السياسي والذي دفع الحركات الجهادية إلى الإرهاب لبناء دولة الخلافة.
في هذا الإطار يشير كيبل أن العنف الناتج عن الإسلام السياسي عرف ثلاث مراحل او أجيال الجيل الأول هو الذي ساهم في معارك أفغانستان ضد التواجد العسكري السوفياتي منذ سنة 1979 وامتد إلى الحرب الأهلية في الجزائر وسنوات العنف والإرهاب إلى سنة 1997 وكانت البدايات الاولى للإسلام السياسي في الانتقال من مجال العمل الدعوي والسياسي إلى مجال العمل المسلح والعنف الإرهابي ثم جاء الجيل الثاني والذي تطور مع القاعدة والاعتداءات الإرهابية في 11 سبتمبر 2011. أما الجيل الثالث أو المرحلة الثالثة فهي التي انطلقت سنة 2005 إثر دعوة السوري أبو مصعب السوري المسلمين إلى الجهاد العالمي على الشبكات الاجتماعية وكان بالتالي وراء ظهور الجيل الجديد من الحركات الجهادية أو ما يسميه الباحث «الجهاد 36» للتأكيد على الدور الذي يلعبه العالم الافتراضي والانترنيت في تطور ونمو هذه الحركات.

وستكون المواقف المتناقضة لهذين المفكرين الهامين في الدراسات الإسلامية في أوروبا وراء معركة فكرية وسجال لا يعرف سره إلا المتابعون للساحة الفكرية في فرنسا فمن جهة روا المختص في العنف السياسي والذي يؤكد أن العنف ليس مقتصرا على الحركات الإسلامية بل هو ظاهرة واكبت حركات الشباب الاحتجاجية وتعبيرة تاريخية أخذتها هذه الحركات وما نشهده اليوم هو أسلمة العنف أي أن هذا العنف الإرهابي يأخذ اليوم غطاء إسلاميا بعد أن كانت الماوية أو الماركسية غطاءه الإيديولوجي في ستينات وسبعينات القرن الماضي ويعيب روا على كيبل نظرته الاستشراقية والتي تعتبر أن العنف مرتبط بالإسلام وبعدم قدرة المسلمين على الانفتاح على الديمقراطية والحرية والممارسة السياسية المدنية.

ومن جهة أخرى فإن كيبل يرى أن الحركات الجهادية والإرهاب الجهادي هما وليدا حركات الإسلام السياسي وتمسك البعض منها بالمشروع الدعوي وبمشروع بناء دولة الخلافة على أنقاض الدولة المدنية.

وفي رأيي فإن المواقف الفكرية لا تفسر لوحدها حدة المواجهة بين الرجلين والتي تجاوزت في بعض الأحيان حدود الخطاب العلمي الرصين. فمواقفهما وتحاليلهما ليست بالتعارض الذي يجعل القراءتين متناقضتين بل في رأيي هما متكاملتان إلى حد بعيد فمن جهة لا يمكن أن ننكر ميل الشباب الرافض في بعض الأحيان إلى العنف ومن جهة أخرى فإن الإرهاب هو كذلك نتيجة لتطور الحركات الجهادية والتي اختارت العنف المسلح لفرض برنامجها ومشروعها السياسي لبناء دولة الخلافة والقضاء على الدولة المدنية إلا أن ما يفسر حدة هذه المعركة الفكرية هو كذلك المنافسة بين الرجلين للتموقع في نقل الدراسات الإسلامية في أوروبا والعالم.

وما يمكن أن نخلص إليه بالرجوع إلى وضعيتنا في مسار البناء الديمقراطي يتمحور في مسألتين الأولى سياسية وتهم المخاض الهام وفي بعض الأحيان الصعب الذي يشهده الإسلام السياسي في التحول إلى حركات سياسية مدنية تنخرط في العملية الديمقراطية وهذا التحول في رأيي هام وسيساهم في دعم تجارب التحول الديمقراطي واستقرارها.

المسألة الثانية تهم البحث العلمي في بلادنا وبالخصوص في مسائل العنف الجهادي وهنا لا بد لنا أن نضع الإمكانيات الضرورية لباحثينا والجامعيين والأخصائيين لفهم هذه الظاهرة والخطر الذي يحدق بشبابنا ومن أجل وضع السياسات لإيقاف هذا المارد الذي يحاول العصف بديمقراطيتنا الناشئة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115