لأسباب شخصية وعائلية، وككل سفرة وككل زيارة كانت هذه الرحلة فرصة لاعادة النظر في العلاقة المعقدة والمتوترة إن لم نقل أكثر والتي تجمعنا بالولايات المتحدة الأمريكية وبهذا الشعور والاحساس المعادي لهذا البلد، والعرب ليسوا الوحيدين في العالم الذين يملؤهم هذا الاحساس وهذا التوجس وفي بعض الأحيان الكثير من الخوف من الهيمنة الأمريكية في العالم فما يسميه المحللون Le sentiment anti-américain أو الشعور المعادي لأمريكا تتقاسمه عديد الشعوب ابتداء من أوروبا وبصفة خاصة فرنسا والتي رفضت إثر الحرب العالمية الثانية، وبالرغم من الدور الأساسي الذي لعبته القوات الأمريكية الى جانب الجيش الأحمر على الجبهة الشرقية في هزيمة القوات النازية، الالتحاق بمنظمة شمال الحلف الأطلسي أو الناتو للحفاظ على استقلالية قرارها العسكري والاستراتيجي. كما نجد نفس الشعور ونفس التوجس في عديد الأماكن الأخرى كأمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا.
ونريد في هذا المقال التأكيد على فكرة هامة وهي أن حجم هذا الشعور المعادي لأمريكا والذي دفع العديد الى اعتبارها مصدر الهيمنة الأكبر حجب عنا ولم يمكننا من التعرف على عديد الجوانب الهامة في هذه التجربة والتي مكنت الولايات المتحدة الأمريكية من بناء تأثيرها على العالم أو ما يسميه المفكر الاستراتيجي الأمريكي والأستاذ في جامعة «هارفارد» جوزيف ناي أو Joseph nye بالقوة الناعمة أو «Soft power» مقارنة بالقوة المباشرة أو Hard power.
وفي تحديده لهذا المفهوم يؤكد المفكر الأمريكي على كل الأدوات والطرق التي مكنت الولايات المتحدة الأمريكية من بناء قدرة على الاقناع والتأثير والضمّ دون التدخل المباشر ودون الاكراه ومن ضمن هذه الأدوات يمكن الحديث عن طريقة العيش الأمريكية أو American way of life وكل أنواع الموسيقى القادمة من أمريكا، واللباس و كرة السلة وكرة القدم الأمريكية وغيرها كثير من مجالات التأثير.
كنت تعرضت في مقالات سابقة الى بعض هذه المجالات وبصفة خاصة مجال الدراسة الجامعية والبحث العلمي واللذين مكنا الولايات المتحدة الأمريكية من بناء قدرة تنافسية هامة مكنتهم من دعم موقعهم كقوة اقتصادية عظمى وتبوؤ مراتب الصدارة في العالم. في هذا المقال سأتحدث عن مجال آخر تمكنت فيه الولايات المتحدة الأمريكية من تبوؤ مراكز الصدارة في فترة وجيزة وهو المجال الفني وبصفة خاصة مجال الفن المعاصر والتعبيرات التشكيلية المعاصرة. والحديث عن هذا المجال من مدينة نيويورك أساسي باعتبارها أطاحت بباريس اثر الحرب العالمية الثانية لتصبح عاصمة الفن المعاصر ووجهة كل الفنانين الباحثين عن الشهرة والنجاح وحتى المال والثروة. وسنحاول التعرض لهذه التجربة المهمة من خلال ثلاثة من أهم المتاحف والمعارض الكبرى للفن المعاصر موجودة في مدينة نيويورك لنقف على أهم ميزات هذه التجربة علّنا نستخلص منها بعض الدروس ونحاول من خلالها أن نكون أمريكيين ولو قليلا.
لكن قبل الحديث عن هذه التجربة سنحاول التعرض ولو باختصار لظهور هذا التوجس والشعور المعادي «للأخ الأكبر» كما يقول جورج أورويل صاحب رواية «1984» الشهيرة. ارتبط وتزامن هذا الشعور مع بروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى ومهيمنة في العلاقات الدولية. ولم يكن هذا البروز طبيعيا وفوريا بل كان مشوبا بالكثير من التردد والشك. لقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قوة اقتصادية كبرى ستتجاوز في أهميتها بريطانيا العظمى والتي كانت رائدة النظام الأمريكي مع ظهور الابتكارات والمؤسسات الصناعية العالمية التي ستهيمن على النظام الرأسمالي العالمي. إلا أنه وبالرغم من صعودها وهيمنتها على الاقتصاد العالمي فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستنأى وتبتعد عن الصراعات السياسية الدولية وترفض الخوض فيها والمحافظة على الحياد في كل النزاعات الدولية. وستجد هذه السياسة في النظريات الانعزالية أو Les théorie isolationnistes مرجعا أساسيا لمواصلة سياسة الحياد والابتعاد عن الصراعات الدولية والاهتمام بصفة أساسية بقضاياها الداخلية.
إلا أن هذه السياسة ستعرف بعض التغيير مع وصول ويلسون الى رئاسة الجمهورية في 1913. فبعد الكثير من الأخذ والرد ستأخذ أمريكا قرار إعلان الحرب في أفريل 1918 ضد ألمانيا والوقوف مع فرنسا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى الا أن هذا الموقف لا يعني انتهاء حالة التردد ولن يدفع الولايات المتحدة الأمريكية للعب دور أكبر في العلاقات الدولية.
وستراقب الولايت المتحدة الأمريكية كذلك انطلاق الحرب العالمية الثانية بصفة الملاحظ ولن تنخرط فيها الا اثر هجوم القوات اليابانية على القاعدة الأمريكية «بيرل هاربر» أو «Pearl Harbor» القريبة من هاواي في 7 ديسمبر 1941. ومنذ ذلك التاريخ ستلعب الولايات المتحدة الأمريكية الى جانب الاتحاد السوفياتي والجيش الأحمر دورا أساسيا في هزيمة القوات النازية ونهاية هذا الحلم المرعب الذي هدد الانسانية.
وستشكل نهاية الحرب العالمية الثانية منعطفا أساسيا في السياسة الدولية الأمريكية وفي تواجدها على الساحة الدولية. فأمام ضعف القوى الليبيرالية الأخرى والبلدان الرأسمالية التي خرجت منهكة من الحرب سيعود للولايات المتحدة تزعم العالم الحر والتصدي لنمو وتطور الخطر الشيوعي. وستكون هذه الفترة نقطة انطلاق مشروع الهيمنة الامبريالي وكذلك النظرة المتوجسة والمناهضة للتواجد الأمريكي في العام.
وسيشهد التواجد الأمريكي في العالم عديد المحطات الهامة والتي شكلت نقاطا مفصلية في التاريخ المعاصر ستفتح فيها الادارات الأمريكية الباب واسعا لقوة السلاح وجبروت المارينز للدفاع عن العالم الحر وايقاف نضالات الشعوب والمد الشيوعي الذي عرفه العالم اثر نهاية الحرب العالمية الثانية.
وستبدأ لغة السلاح وجبروته مع اطلاق القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناڤازاكي اثر نهاية الحرب العالمية الثانية وبالرغم من إعلان اليابان عن هزيمته. وسيتواصل هذا المسلسل مع التدخل الأمريكي في كوريا لمنع انتصار القوات الشيوعية مما سيؤدي الى انقسام هذا البلد الى دولتين.
وستكون حرب فيتنام نقطة أساسية في تصاعد النظرة المناهضة للسياسات الأمريكية ولغطرستها في العالم. وسيتواصل هذا التوجس والرفض لهذه السياسات مع التدخل الأمريكي في أمريكا اللاتينية لدعم الدكتاتورية العسكرية في السبعينات والدعم اللامتناهي لدولة اسرائيل واعتداءاتها ورفضها الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. كما ستشكل حربا الخليج محطة أخرى في التدخل ومحاولة الهيمنة الأمريكية على العالم وفي تنامي التوجس والخوف والرفض على المستوى العالمي لهذه السياسات.
اذن بعد الكثير من التردد ستبدأ الولايات المتحدة الأمريكية في التواجد على المستوى العالمي وفي بناء سياسة توسعية فيها الكثير من القوة للهيمنة وبناء سيطرتها على العالم. وكانت هذه السياسة وراء الكثير من النقد والرفض على المستوى العالمي والذي لم يقف على رفض السياسات الأمريكية بل امتد الى رفض النظام الأمريكي بطريقة شاملة.
وقد حجب هذا الرفض عديد الجوانب الهامة في النظام الأمريكي والتي لم تٌحظ بالتمحيص والمعرفة. ومن هذه الجوانب نريد الوقوف في هذا المقال على تطور الفنون في الولايات المتحدة وبصفة خاصة في نيويورك والتي أصبحت عاصمة الفن المعاصر في العام اثر الحرب العالمية الثانية.وسنقف في هذا المقال على ثلاث تجارب أساسية في مدينة نيويورك أصبحت منارات الفن المعاصر على المستوى العالمي. التجربة الأولى تهم Metropolitain Museum of Art أو متحف الفن والذي يطلق عليه أهالي المدينة وأغلب متابعي الفن تسمية MET والذي يعتبر ثالث أكبر متحف في العالم بعد متحف اللوفر في باريس و British museum في لندن. والأهم في هذا المشروع هي نقطة انطلاقه والتي ابتدأت اثر اجتماع مجموعة من كبار أثرياء رجال الأعمال الأمريكيين في باريس سنة 1866 وقرروا العمل على انشاء متحف يضاهي كبرى المتاحف في العالم وبصفة خاصة متاحف باريس وبريطانيا.
وبدون تأخير انطلقت هذه المجموعة في توفير الشروط الأساسية للانطلاق في انجاز هذا المشروع ومن ضمنها توفير الأموال الضرورية وتوفير المكان الضروري لاحتضان المشروع والحصول على الدعم الضروري من السلط السياسية الفدرالية والمحلية.
وما هي الا أربع سنوات حتى فتح هذا المتحف أبوابه سنة 1870 وليصبح بعد أقل من قرن، وهي مدة قصيرة في حياة المتاحف، أحد أهم المتاحف في العالم. ويمتلك مجموعة تحف ولوحات فنية تقدر بمليوني تحفة لم يتم عرض سوى 250٫000 قطعة منها في 270 قاعة عرض والتي تمسح 180٫000 متر مربع، وتمتد التحف والآثار واللوحات الفنية على مسيرة الانسانية وتعطينا فكرة عن تطور الفن عبر العصور الى حد السنوات الأخيرة. وسيصبح هذا المتحف أحد أهم المعالم التي يزورها السياح القاصدون نيويورك الى درجة أن العديد من أدلة السفر يعتبرون أن زيارة هذا المتحف وحدها كافية لزيارة نيويورك.
المعلم الفني الثاني الذي ساهم في شهرة مدينة نيويورك هو متحف الفن المعاصر أو Museum of modern art والمعروف عند العالم باسم MOMA. وقد تم فتح هذا المتحف في أتون الأزمة الاقتصادية العالمية بفضل تظافر جهود الدولة والعديد من أثرياء رجال الأعمال الراعين للعمل الفني. وقد تميز هذا المتحف بسياسة جريئة على مستوى الشراءات، فاهتم بالفنانين الجدد وغير المعروفين والخارجين عن الأشكال السائدة والذين سيصبحون بعد سنوات من أهم الفنانين في العالم. ومكنت هذه السياسة Moma من تكوين أهم مجموعة في الفن المعاصر والحديث في العالم مما سيجعله قبلة الزوار والسياح في العالم.
التجربة الثالثة تخص متحف guggenheim والذي شيده ورعاه هذا الأخير لعرض تحفه الفنية والمجموعة الكبرى التي كونها على مر السنين. ولعل أهمية هذا المتحف لا تقتصر على المجموعة الفنية المعروضة بصفة دائمة بل في هندستها الطريفة والتي قام بها أحد آباء الهندسة الحديثة في أمريكا وهو Frank Loyd Wright والتي أخذت منه عشر سنوات لاتمامها سنة 1961 حتى أن Solomon guggenheim راعي الأثار توفي في الأثناء، وسيستقطب هذا المعلم اليوم عددا كبيرا من الزيار والسواح الذين يؤمونه لا فقط للتمتع بلوحاته وتحفه بل كذلك للاستمتاع بهندسته.
أردت في هذا المقال تقييم ثلاثة معالم أساسية من الناحية الثقافية والفنية والتي أعطت لمدينة نيويورك اشعاعا عالميا الىجانب أسواقها المالية وبورصة وول ستريت والتي تعتبر قبلة الرأسمال العالمي، ومن خلال هذا التقديم أردت التأكيد على فكرة أساسية وهي أن التوجس والخوف من «الأخ الأكبر» ومن مغامراته وحروبه لفرض هيمنته تحجب عنا بعض الجوانب المهمة في النظام الأمريكي، أردت الوقوف في هذا المقال على الجانب الثقافي والفني والتطور الهام الذي عرفه العالم الجديد في ظرف قياسي ليفتك من باريس الصدارة ولتصبح نيويورك عاصمة الابداع والفن على المستوى العالمي، ولعل الأهم بالنسبة لي في هذه التجربة هي عناصر النجاح فيها والتي مكنت الولايات المتحدة الأمريكية من تبوؤ مكان الصدارة. ولقد تمعنت عن كثب في هذه التجربة في زياراتي المتعددة لنيويورك والمدن الأمريكية الأخرى ومن خلال قراءاتي لبعض الدراسات في هذا الموضوع، ويمكن أن أشير الى أربع عوامل أساسية ساهمت في نجاح التجربة الأمريكية على المستوى الفني، العامل الأول يخص القيمة الفنية والمكانة الأساسية للثقافة في هذا النظام والتي جعلته يخصص امكانيات كبيرة في هذا
المجال، العامل الثاني يخص الدور الكبير الذي لعبه رجال الأعمال ومن الأثرياء في دعم ورعاية العمل الثقافي والفني، العامل الثالث يخص روح المغامرة التي طبعت السياسة والاختيارات الفنية والتي فتحت الباب على الخيارات الجديدة والتجريبية والتي بدأت مغمورة لتصبح بعد سنوات قليلة مشهورة ومعروفة، العامل الرابع والأخير والذي ساهم في نجاح هذه التجربة هو انفتاح المجال الفني الأمريكي على الآخر واحتضانه لعديد الطاقات الفنية القادمة من جهات وبلدان بعيدة والتي ساهمت في تطوير التجربة الفنية عند أبناء العم سام.
هذه القراءة السريعة في التجربة الفنية الأمريكية دفعتني للتفكير في تجربتنا الفنية وفي الثورة الفنية التي نعرفها اثر ثورات الربيع العربي، والرجاء الوحيد الذي أتمناه هو أن نكون أمريكيين بعض الشيء في المجال الفني حتى نضمن شروط الاستدامة والتواصل للثورة الفنية التي تمر بها بلادنا ولنجعل من الثقافة أحد الجسور الأساسية للتغيير الديمقراطي.