قانون المالية والتحديات الاقتصادية الكبرى

أثار مشروع قانون المالية الذي قدمته الحكومة الكثير من النقاش وحتى الجدل من قبل الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية والخبراء والمتابعين للشأن الاقتصادي في بلادنا. فقد لوحت منظمة الأعراف بامكانية مغادرتها اتفاق قرطاج نظرا لأن الحكومة لم تأخذ بعين الاعتبار مقترحاتها ولاعتبارها أن هذه الضرائب الجديدة ستثقل كاهل المؤسسات وستزيد من

صعوباتها الاقتصادية كما عبرت المنظمة الشغيلة عن رفضها أن تكون القرارات والإجراءات على حساب الشغالين ونادت إلى ضرورة تقاسم الأعباء للخروج من الأزمة الاقتصادية

إن النقاشات والجدل الذي آثاره قانون المالية والآراء المتضاربة حول توجهاته الكبرى هو انعكاس في رأيي لعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها بلادنا منذ سنوات وعجزنا عن إيجاد الحلول والسياسات التي ستمكننا من الخروج من هذا النفق.فلئن نجحت بلادنا في التقدم بخطى ثابتة وحثيثة في المجال السياسي وقطعنا أشواطا مهمة على طريق إرساء نظام ديمقراطي تعددي فان المجال الاقتصادي عرف تأخرا كبير ليصبح التحول الاقتصادي والاجتماعي إحدى أهم القضايا التي تقض مضاجع مختلف الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ الثورة.فالنموّ بقي هشا ولم يتجاوز في أحسن الحالات %2.5 والبطالة بقيت مرتفعة .وقد شهدت التوازنات المالية الكبرى للدولة انخراما كبيرا فالمالية العمومية والميزان التجاري عرفا تنامي عجزهما.أما نسق الاستثمار فقد بقي ضعيفا ولم يرق للمستويات التي عرفها قبل الثورة.

وفي ظل هذه التحديات الكبرى فان التساؤل الأساسي حول قانون المالية يهم قدرته على دفع الحركية الاقتصادية والخروج من هذا النفق الذي دخل فيه اقتصادنا وسنحاول في هذه الملاحظات إعطاء بعض الآراء والقراءات في مختلف جوانب هذا القانون.
لكن قبل أن أسوق هذه الملاحظات أريد أن أبدأ ببعض النقاط المنهجية والتي تهم قانون المالية وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية لنفهم الحيز الكبير من النقاش العام الذي يخص به في المجتمعات الديمقراطية.

قانون المالية : في المنهج والأسلوب
أثار قانون المالية كما اشرنا هذه السنة الكثير من النقد من قبل عديد الجهات وحتى قبل صدوره في نسخته النهائية.وهذه القراءات المختلفة والنقد والجدل هي طبيعية باعتبار أهمية قانون المالية بالنسبة للحكومات في البلدان الديمقراطية.فقانون المالية وميزانية الدولة يختزلان كنه وجوهر السياسة الاقتصادية والمالية وحتى الاجتماعية.فقانون المالية يعطي الإشارة لطبيعة السياسة الاقتصادية للحكومة وخياراتها.فان كانت هذه السياسة توسيعية فسيتجه هذا القانون نحو دفع الاستثمار العمومي وحتى الاستهلاك مع إمكانية دفع كتلة الأجور.أما إذا كانت هذه الميزانية تقشفية فإنها ستعمل على الحد من الاستهلاك والاستثمار العمومي.كما ان لقانون المالية انعكاسات كبيرة على الدورة الاقتصادية وبصفة خاصة على الاستثمار .فإلى جانب الاستثمار العمومي والذي يبقى مهما في عديد البلدان حتى الرأسمالية منها والتي تتميز بدور كبير للقطاع الخاص فان قانون المالية يساهم كذلك في دفع الاستثمار العمومي الداخلي والأجنبي من خلال التحفيزات التي يقدمها وخاصة الجبائية منها.

ودور قانون المالية لا يقتصر على دفع الديناميكية الاقتصادية بل كذلك له انعكاسات اجتماعية كبرى من خلال عديد الإجراءات والجوانب .والجانب الأول يخص الزيادات في الاجور بالنسبة للوظيفة العمومية التي يمكن أن تشمل ميزانية الدولة بعد المفاوضات مع النقابات كما يمكن لقانون المالية أن يأخذ عديد الاجراءات الاجتماعية والتي تخص الطبقات المعوزة .ويمكن لقانون المالية أن يؤثر على السياسة الاجتماعية من خلال تدخله في إعادة توزيع الثروة كإدخاله بعض الاداءات على أصحاب المداخيل العليا أو على الإرباح وتخصيصها لبرامج وإجراءات لأصحاب المداخيل الضعيفة .

ويمكن كذلك لقانون المالية أن يلعب دورا هاما في تقليص التفاوت الجهوي من خلال تخصيصه لتحفيزات هامة مثلا للاستثمارات في الجهات المحرومة أو تخصيص نسبة كبيرة من الاستثمارات العمومية لهذه الجهات في إطار ما نسميه التمييز الايجابي والذي أدرجناه في دستور ما بعد الثورة.
ويمكن لنا كذلك أن نشير إلى التأثيرات الأخرى المهمة لقانون المالية في السياسات القطاعية وفي مجال التنمية المستدامة وغيرها.

هذه الملاحظات تشير إلى أهمية قانون المالية وتأثيره الكبير لا فقط على الوضع الاقتصادي والاجتماعي بل على الحياة اليومية للمواطنين.وهذه الأهمية تفسر النقاشات والجدل الذي تثيره قوانين المالية في المجتمعات الديمقراطية وبالرغم من هذا الجدل والحوار الحاد في بعض الأحيان فإن الحكومات في البلدان الديمقراطية تعطي أهمية قصوى للنقاش العام حول قوانين المالية وميزانية الدولة باعتباره يختزل الاختيارات والسياسات الكبرى للدولة.

ومن هذا المنطلق فانه لابد لحكومتنا أن تأخذ بعين الاعتبار هذه المسالة فتعطي للنقاش العام حول هذه المسائل الأهمية التي يستحقها من خلال توفير المعطيات والبيانات حول التوجهات الاقتصادية الكبرى والتوازنات المالية لتخلق الظروف الملائمة لهذا النقاش.

إلا أن هذه الظروف والمعطيات لم تكن متوفرة بالقدر الكافي بالنسبة لقانون المالية 2018 مما خلق الكثير من التشويش وزاد من حدة الجدل حول محتواه الحقيقي.فقد تميز إعداد هذا القانون بالكثير من الكتمان المبالغ فيه في رأينا مما فتح مجالا كبيرا للتخمينات والتي ثبت ان بعضها غير صحيح .ولم يقع نشر هذا القانون إلا يوم إيداعه في البرلمان – وقد اقتصرت الوثيقة الأولى على جملة الأحكام وعلى أهميتها فهي ليست كافية للقيام بقراءة جدية لقانون المالية –ثم جاء التقرير والذي يشمل جملة التوازنات المالية بعد أيام من التقرير الأول – وفي رأيي ولئن احتوى هذا التقرير على عديد الأرقام المهمة والتوازنات المالية الكبرى فانه جاء مقتضبا في الجانب الأساسي وهو التوجهات والاختيارات الاقتصادية الكبرى مما دعم الانطباع السائد وهو اقتصار هذا القانون على نظرة محاسبية Comptable لقانون المالية.

لقد فتحت بلادنا فترة جديدة منذ الثورة أصبح فيها النقاش العام الحر والتعددي حول القضايا الكبرى في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ذا أهمية كبرى.وهذا النقاش يتطلب توفير المعطيات الضرورية كي يكون بناءا ويساهم في اتخاذ القرارت والإجراءات الصائبة.

بعد هذه الملاحظات المنهجية سنهتم في هذه المساهمة بالوضع الاقتصادي العام في بلادنا والذي يجب على قانون المالية المساهمة والعمل على تغييره.

في ملامح الوضع الاقتصادي في بلادنا
لعل ابرز سمة للوضع الاقتصادي في بلادنا بعد الثورة واكبر تحدي اقتصادي هو ضعف وهشاشة النموّ.فمعدل النمو لم يتجاوز نسبة %1.5 منذ 2011 وهذا ناتج عن خفوت وضعف ابرز محركاته وهي الاستثمار والتصدير.وقد ساهمت عديد العوامل في هذا التراجع وتردي النمو لعل أبرزها عدم الاستقرار السياسي وتردي الوضع الأمني مع تصاعد الاعتداءات الإرهابية وتصاعد الحركات الاجتماعية في عديد المناطق .وكان لهذا الوضع السياسي والاجتماعي انعكاسات كبيرة على الوضع الاقتصادي فتراجع الاستثمار الداخلي والخارجي .

وقاد محرك الاستهلاك النمو الهش الذي شهدته بلادنا في هذه السنوات.وعلى أهميته فان هذا النمو الناتج عن الاستهلاك كان وراء انخرام توازناتها المالية الكبرى وتردي ميزاننا التجاري نتيجة النمو الكبير للاستيراد وتراجع التصدير.

إلا أن بداية هذه السنة عرفت عودة النمو والذي شهد نسبة محترمة خلال الثلاثي الأول وكان في مستوى %1.9 إلا أن هذه البوادر الايجابية شهدت بعض التراجع والانحسار خلال الثلاثي الثاني مما جعل توقعات النمو بالنسبة للسنة الحالية لن تتجاوز %2.3 وهشاشة النمو كانت وراء بقاء البطالة في مستويات عالية. التحدي الثاني والسمة الهامة الأخرى للوضع الاقتصادي في بلادنا تخص تدهور وانخرام التوازنات المالية الكبرى وبصفة خاصة توازن المالية العمومية والميزان التجاري وحسب الأرقام المحينة فان عجز المالية العمومية سيكون بـ%6.5 في نهاية هذه السنة في تراجع عن نسبة %5.4 التي تمت برمجتها في قانون المالية الأصلي .وبالرغم من الأولية والأهمية التي تم إعطاؤها لهذه الأزمة في السنوات الأخيرة فقد عجزت السياسات الاقتصادية عن الحد من هذا الانخرام لتبقى أزمة المالية العمومية كالسيف المسلط على أعناقنا والذي يهدد حتى استقلالية قرارنا أمام المؤسسات المالية العالمية.

المسالة الثالثة والتي تشكل تحديا هاما أمام اقتصادنا تهم عودة المحرك الأساسي والرئيسي للنمو في بلادنا وهو الاستثمار – عديد الأسباب ساهمت في تعطيل هذا المحرك من ضمنها عدم الاستقرار السياسي والوضع الأمني وكذلك مناخ الاستثمار والذي يتطلب إصلاحات جذرية.كل هذه العوامل لعبت دورا هاما كبيرا وساهمت في حالة الانتظار والترقب التي يعرفها الاستثمار الداخلي والخارجي.

التحدي الرابع والهام الذي تعرفه بلادنا هو التأخير الكبير الذي عرفه نسق الإصلاحات الاقتصادية الكبرى .ولئن عرفت بلادنا اتفاقا بين كل الحكومات على مجالات الإصلاح الكبرى كإصلاح القطاع البنكي ومنظومة الدعم والصناديق الاجتماعية وإصلاح الجباية والوظيفة فان انجاز هذه الإصلاحات شهد تباطؤا كبيرا وتخوفا كبيرا من الحكومات في تحقيقها وتطبيقها على ارض الواقع.وقد ساهم هذا البطء في تعقيد الوضع الاقتصادي وانعكس سلبا على التوازنات المالية الكبرى لبلادنا وعلى النمو والاستثمار.

إن هذه التحديات الاقتصادية الكبرى ليست بالهينة بل تعتبر اشكالات هيكلية ستتطلب سنوات من اجل رفعها وتجاوزها – إلا أن أهمية قانون المالية تكمن في وضعه الطريق وفتحه الآفاق لحل المعضلات الكبرى التي تعيق تطور اقتصادنا والتي لا تمكنه من الخروج من النفق المظلم الذي دخله.
فقانون المالية ليس فقط عملية محاسبية تعمل على موازنة المداخيل بالمصاريف بل هو كذلك أداة هامة في يد السياسة الاقتصادية لإعادة دفع النمو.

وبالرغم من غياب نظرة إستراتيجية في الوثائق المقدمة لقانون المالية 2018 والتي تبرز روحه ونفسه الاقتصادي فإننا سنحاول قراءته من خلال قدرته على رفع ثلاثة تحديات كبرى يمر بها اقتصادنا ألا وهي تعافي المالية العمومية وعودة الاستثمار والتسريع في الإصلاحات الاقتصادية.

الخروج من أزمة المالية العمومية
لقد بلغت أزمة المالية العمومية مستوى يهدد لا فقط توازناتنا المالية الكبرى بل حتى سيادة قرارنا بعد تكاثر تدخلات المؤسسات المالية الكبرى في اختياراتنا الاقتصادية الكبرى.وهذا الانخرام المتواصل للمالية العمومية ناتج عن تطور سريع وحثيث للنفقات مقابل نمو محدود للمداخيل مما جعل الفارق يتفاقم من سنة إلى أخرى بدون أن نكون قادرين على إيجاد الحلول الكافية لإيقاف هذا النزيف.

ولأخذ فكرة عن هذا الانخرام نشير مثلا إلى أن آخر الأرقام المحينة لميزانية 2017 تشري إلى أن النفقات وصلت الى 34.5 مليار دينار مسجلة نسبة نمو بـ %17.6 مقارنة بالسنة الفائتة بينما لم تتجاوز المداخيل الذاتية للدولة 24.1 مليار دينار مسجلة نسبة نمو بـ%13.6 وهذا التطور اللامتكافئ للمصاريف والمداخيل ستتمخض عنه نتائج مالية سلبية.فقد وصل مستوى الفارق إلى 10.3 مليار دينار مسجلا ارتفاعا بأكثر من 2.3 مليار دينار مقارنة بالسنة الفائتة.النتيجة الثانية تهم تصاعد عجز ميزانية الدولة والذي سيبلغ حسب الأرقام المحينة في نهاية هذه السنة نسبة %6.1 من الناتج القومي الخام.
أما النتيجة الثالثة فهي تراجع نسبة الموارد الذاتية مقارنة بنفقات الدولة.وهذه النسبة لها أهمية كبيرة باعتبارها تشير الى قدرة الدولة على تمويل مشاريعها ومصاريفها بمواردها الذاتية وبالتالي استقلاليتها عن موارد التداين.وستبلغ هذه النسبة مستوى %70 في نهاية هذه السنة .وهذا المستوى يعتبر متدنيا مقارنة بما نعتبره النسبة المقبولة عند المؤسسات الدولية والتي

يجب أن تكون بمستوى %85
المسالة الرابعة والناتجة عن هذا الانخرام هي تزايد وتنامي الدين العمومي والذي سيصل في نهاية هذه السنة إلى %67.8 مليار دينار أي %69.6 من الناتج القومي الخام.ولئن تعتبر هذه السنة معقولة مقارنة بالدول الأكثر تداينا فان الإشكال الرئيسي والذي يؤرق أصحاب القرار هو التنامي السريع لخدمة الدين والتي وصلت إلى 7 مليار دينار متجاوزة مستوى الاستثمار العمومي والذي تراجع إلى 5.7 مليار دينار .

هذه الأرقام والمعطيات تشير إلى هشاشة الوضع المالي في بلادنا والذي يهدد استقرارنا ويقض مضاجع كل الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة- والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو قدرة قانون المالية على الخروج من هذه الأزمة وإعادة المالية العمومية إلى مسار أكثر توازنا .

وقد وضع قانون المالية الحالي نصب أعينه ايجاد حلول لهذه المعادلة الصعبة .فقد حدد جملة المصاريف بـ36 مليار دينار أي بنسبة نمو بـ%4.3مقارنة بالأرقام المحينة لسنة 2017. وأشار هذا المشروع إلى أن الموارد الذاتية للدولة ستكون بـ26.4 مليار دينار مما سيجعل الفارق بـ9.5 مليار دينار اي اقل من الفارق المسجل في نهاية هذه السنة بمليار دينار.
وهذا التمشي سيساهم حسب مشروع قانون المالية الذي بين أيدينا في تحسين التوازنات المالية للدولة.فنسبة عجز ميزانية ستتراجع إلى %4.9 في 2018 مقارنة بـ%6.1 سنة 2017. كما سيعرف مستوى الاقتراض هو الآخر تراجعا بمليار دينار مقارنة بالسنة الحالية وسيكون في مستوى 9.5 مليار دينار.
إذن تبدو النوايا والفرضيات في مشروع قانون المالية جيدة على الأقل على المستوى النظري إلا انه يمكن الإشارة إلى ثلاثة مآخذ كبرى على هذا التمشي والمنهجية في بناء التوازنات المالية والتي قد تكون لها انعكاسات سلبية في انجازه.

المسالة الأولى تهم التوجه الذي تم اتباعه والذي أعطى الأولية إلى مسالة التشريع الجبائي بإضافة اداءات جديدة او الترفيع في الاداءات الموجودة وقد أثار هذا التمشي الكثير من النقد وحتى الجدل من عديد الأطراف.فقد اعتبرت عديد المنظمات المهنية ومنها اتحاد الصناعة والتجارة ومنظمة CONECT وجمعية المستثمرين الشبان أن هذا التمشي ستكون له انعكاسات سلبية على المؤسسات الصناعية ستزيد من صعوباتها الاقتصادية.وقد دفعت هذه الانتقادات رئيسة اتحاد الصناعة والتجارة السيدة وداد بوشماوي إلى التهديد بالخروج من اتفاق قرطاج ونجد كذلك نفس النقد ولو بأقل حدة من عديد الأطراف الأخرى كالاتحاد العام التونسي للشغل باعتبار أن هذه الاداءات الجديدة ستثقل كاهل الشغالين والطبقات الوسطى.
وقد كنت أكدت في عديد المنابر أن هذا التمشي وتغليب التشريع من خلال إيجاد اداءات جديدة أو الترفيع في الاداءات الموجودة قد بلغ حدوده ولا يمكن تطوير مداخيل الدولة بصفة جدية.لسببين على الأقل .

الأول أننا وصلنا إلى حالة من «التعب من الاداءات « أو «Fatigue Fiscale» تجعل من اغلب الناس رافضين كل الاداءات الجديدة.أما السبب الثاني فهو قدرة الدولة وإدارة الضرائب على استخلاص كل هذه الاداءات

كنت أشرت في عديد المناسبات انه حان الوقت لتغيير المنهجية التي غلبت على العمل الجبائي منذ الثورة .وقد أعطت هذه المنهجية الأولوية للتشريع وقامت في السبع سنوات الأخيرة بإعداد ترسانة ضخمة تجاوزت 500 قانون لتنمية مداخيل الدولة وتطويرها من خلال الحد من التهرب الجبائي والتجارة الموازية.إلا انه في رأيي قد حان الوقت للخروج من هذه

المنهجية والتأكيد على إعطاء الأولوية للمراقبة والاستخلاص

المسالة الثانية والتي تخص التوازنات التي ضبطها قانون المالية تهم واقعيتها .وفي رأيي فان هذه المسالة أساسية وجوهرية فقد غلب على قوانين المالية في السنوات الأخيرة الكثير من التفاؤل وغياب الواقعية وقد نتج عن ذلك الالتجاء الى قوانين مالية تكميلية لإصلاح هذه المعطيات .واصبح هذا الالتجاء والذي نعتبره في علوم المالية العمومية حالة خاصة يقع الاتجاه إليها في ظروف استثنائية قاعدة للعمل عند مختلف الحكومات.

ولنعط فكرة عن حجم وانعكاسات التفاؤل المبالغ فيه وغياب الواقعية في إعداد قانون المالية نشير إلى الفرق بين النفقات الواردة في قانون المالية الأصلي لسنة 2017 والتحيين في نهاية شهر سبتمبر بلغ أكثر من مليارين من الدنانير .مما جعلنا نحتاج إلى ترفيع التداين بنفس المستوى تقريبا ونتج عنه نمو عجز الميزانية من %5.4 إلى %6.1 ويجب علينا أن نقطع مع هذا التمشي وان نحاول أن نضبط فرضيات فيها الكثير من الواقعية حتى نتفادى هذه الحاجة والتي أصبحت ضرورية لإعادة النظر في توازناتنا في منتصف كل سنة.

المسالة الثالثة والهيكلية والتي حاول تجاوزها قانون المالية تخص حاجتنا إلى موارد استثنائية في ظل هشاشة النمو.وفي رأيي لابد من طرح هذه المسالة بكل جدية .فلا يمكن لنا مواصلة البحث عن التوازنات الكبرى للمالية العمومية في ظل ضعف النمو بدون البحث عن موارد استثنائية .ويمكن لهذه الموارد أن تتأتى من خوصصة بعض مساهمات الدولة في بعض المؤسسات غير الإستراتيجية أو محاولة إعادة هيكلة الدين أن سمحت الظروف ودعم شركائنا لذلك.ففي تقديري فانه طالما لم نصل إلى مستوى نمو بـ%5 فانا سنحتاج إلى ضخ مداخيل استثنائية بـ2 مليار دينار سنويا.

إذن يمكن لنا أن نقول في هذه الفقرة انه وبالرغم من تأكيد الحكومة على التعاطي بجدية مع أزمة المالية العمومية في هذا المشروع فإن التمشي الجبائي والتفاؤل المفرط فيه إلى جانب حاجتنا إلى مداخيل استثنائية تجعل توازنات هذا القانون صعبة وتتطلب جزءا هاما من الجرأة للخروج من الحذر الذي ميزه.

في دفع النمو والاستثمار
لقد أكد المشروع الحكومي على أهمية دفع الاستثمار الذي من شأنه أن يدفع النمو والتشغيل وقد اشتمل هذا المشروع على عديد الامتيازات لدفع عجلة الاستثمار اذكر منها إعفاء المؤسسات المحدثة سنتي 2018 و2019 من الضرائب لمدة ثلاث سنوات ودعم إعادة هيكلة المؤسسات الصغرى والمتوسطة وتدعيم انتصاب المؤسسات الاقتصادية في مناطق التنمية الجهوية.

وهذه الإجراءات على أهميتها لن تساهم في دفع الاستثمار لوحدها.وقد أشارت عديد الدراسات أن الامتيازات الجبائية غير كافية بل ينتظر المستثمرون في الداخل والخارج تحسين المناخ الاستثماري وبصفة خاصة تسريع تعامل الإدارة مع المؤسسات من خلال مثلا بعث الشباك الموحد للاستثمار والذي سيساهم مساهمة فعالة في دفع عجلة الاستثمار .
الملاحظة الثانية التي يمكن ان نثيرها في هذا المجال هي التناقض بين الأحكام الموجهة لدعم ميزانية الدولة والتي نتج عنها تطور في الاداءت على المؤسسات والإجراءات الموجهة إلى دعم الاستثمار والتي تعمل على إعطاء بعض الامتيازات الجبائية .

كذلك نشير إلى تراجع الاعتمادات المخصصة للتمويل العمومي في مشروع الميزانية والتي ستمر من 6.1 مليار دينار في قانون المالية لسنة 2016 الى 5.7 مليار دينار سنة 2018 ويؤكد البيان الحكومي أن هذا التخفيض لن يمس مستوى الاستثمار في بلادنا باعتبار أن الدولة أعدت عديد المشاريع الاستثمارية لسنتي 2018 و2019 والتي سيقع انجازها عن طريق الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص إلا أن دراسة المشاريع المبرمجة في هذا الإطار داخل البرنامج الحكومي 2017-2020 تختلف عن برنامج الاستثمار العمومي والموجه اغلبها إلى تحسين البنية التحتية في مناطق التنمية الجهوية.

وفي رأيي يبقى التحدي الأساسي والرئيسي في بلادنا غياب المشاريع الاستثمارية الكبرى والتي تلعب دورا أساسيا في دفع النمو والتشغيل في بلادنا.

وقد كانت هذه المشاريع وراء النمو الذي عرفته بلادنا في التسعينات والألفية لتتجاوز هذه النسب %5 في عديد السنوات.إلا أن بنك المشاريع الكبرى في بلادنا يشهد فراغا كبيرا ولن نتمكن في رأيي من تحقيق حركة استثمارية كبرى طالما لم نقم بتصور وتحقيق جملة مشاريع كبرى تعيد هيكلة الاقتصاد في بلادنا.وفي هذا الإطار لابد من التأكيد على الدور الذي يجب أن يلعبه صندوق الودائع والضمانات أسوة بالدور الذي لعبه في فرنسا وايطاليا بعد الحرب العالمية الثانية وفي المغرب في السنوات الأخيرة.

إذ بلادنا تحتاج إلى رجة استثمارية كبرى لدفع النمو والتشغيل وهذا يتطلب كثيرا من الجرأة والحلم من اجل الخروج من السياسات التقليدية والمحافظة.

في التسريع في نسق الإصلاحات الاقتصادية
لقد أشارت عديد الدراسات والتقارير الوطنية وملاحظات المؤسسات الدولية الى ضرورة التسريع في نسق الإصلاحات الاقتصادية.وقد عرفت بلادنا توافقا كبيرا على تحديد هذه الإصلاحات ونذكر منها اصلاح الوظيفة العمومية وإصلاح الصناديق الاجتماعية ومنظومة الدعم والبنوك العمومية والمؤسسات العمومية والإصلاح الجبائي.
إلا أن نسق الانجاز بقي ضعيفا ولم تتمكن عديد الحكومات من القيام بتقدم حقيقي في هذا المجال بالرغم من حصولها على دعم سياسي هام.
وقد طرحت حكومة الوحدة الوطنية في جدول أولوياتها التسريع في نسق هذه الإصلاحات خلال السنة القادمة وقد تضمن قانون المالية لسنة 2018 بعض الاعتمادات لتطبيق هذه الاتفاقات كالتي تخص برنامج إصلاح الوظيفة العمومية.كما قلص قانون المالية من اعتمادات أخرى كالتي تخص الصناديق الاجتماعية لمراهنته على الوصول لاتفاق في اقرب الآجال في هذا المجال.

وفي هذا المجال أريد الإشارة إلى ملاحظتين – الأولى تخص ضرورة التسريع في نسق انجاز هذه الإصلاحات الكبرى وبناء الدعم السياسي الواسع لتنفيذها.
أما الملاحظة الثانية فهي لتأكيد تأثير البطء في انجاز هذه الإصلاحات على التوازنات الكبرى لقانون المالية.وهنا أود التأكيد على أهمية هذه المسألة وارتباطها الوثيق بالتوازنات المالية الكبرى .

ان السنة القادمة 2018 تعتبر مفصلية على المستوى الاقتصادي – فلئن حققت بلادنا خطوات هامة على درب التحول الديمقراطي فان المجال الاقتصادي لايزال يشهد الكثير من التأخير – فدخلت بلادنا أزمة اقتصادية خانقة لم نتمكن للان من تجاوزها وفتح آفاق جديدة لتحقيق طموحات الثورة ومطالبها من شغل ونمو وتوازن جهوي.وقد راوحت السياسات الاقتصادية مكانها ولم تمكن من تحقيق نمو وتطور فعلي في هذا المجال.

ولقانون المالية 2018 أهمية خاصة على اعتبار أن خروجه من الحذر الذي ميزه وإعطاءه روحا اقتصادية ونفسا وشجاعة وجرأة يمكنه ان يضعنا على طريق النمو السريع والتسريع في التحول الاقتصادي الضروري لدعم التحول السياسي الديمقراطي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115