إلى أيقونة الثورة والتمرد على الأوضاع القائمة عند الشباب على المستوى العالمي.وقد بدأت المجلات والصحف بتخصيص الملاحق والمقالات من اجل العودة إلى هذه الفترة وفهم ظروفها وتعقيداتها والخيار القائم في تلك الأيام هو اللجوء إلى السلاح من اجل تغيير الأنظمة وبناء الديمقراطية كما اهتمت هذه المقالات بظاهرة قيفارا أو أيقونة الثورة والتمرد العالمي وخيار الكفاح المسلح الذي أصبح رمزه على المستوى العالمي ولم تكتف هذه المقالات بمحاولة فهم أرائه الفكرية والنظرية واختياراته الإستراتيجية والعسكرية بل ذهبت أيضا إلى فهم جوانب كبيرة من شخصيته المعقدة والتي تفسر حسب بعض المحللين وحتى الناس الذين عرفوه عن قرب نهايته المأساوية في إحدى غابات بوليفيا مع مجموعة صغيرة من المناضلين تائهين ومنفصلين وبعيدين كل البعد عن الفلاحين الفقراء والجماهير الشعبية التي جاؤوا للنضال من اجلها.
ويبقى السؤال الهام هو أسباب هذا الخيار واللجوء إلى الكفاح المسلح كطريق للتغيير السياسي والاجتماعي في تلك الأيام ؟ والسؤال الثاني والمهم والمرتبط بالسؤال هو أسباب سقوط هذه الخيار ؟وتبقى شخصية قيفارا وتأثيره في هذه المرحلة التاريخية المفصلية هامة وأساسية .
لنعود إلى السؤال الأول حول خيار السلاح في الثورات لنشير إلى أن هذه المسألة لم تكن غائبة في أغلب الهيئات الاجتماعية والسياسية – فمن ثورة سبارتكوس (Spartacus) العبد الذي قاد ثورة العبيد ضد روما بين 73 و71 قبل المسيح إلى الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر إلى دائرة باريس Commune de paris وانتفاضة عمال مدينة باريس وشبابها ضد النظام لمدة أكثر من شهرين حتى 1871 كان خيار السلاح موجودا – وهذا التوجه ليس مقتصرا على الثورات الأوروبية بل عرف كذلك سبيله إلى الثورات في البلدان العربية وحتى في بلادنا المعروفة بنبذها للعنف.فكانت ثورة علي بن غذاهم والفلاحين الفقراء اختارت السلاح لمواجهة عنهجية جيش الدولة الحسينية – كما اختارت عديد المجموعات من الحركات الوطنية في بلادنا الكفاح المسلح وكونت مجموعات «الفلاقة» في عديد الجهات من البلاد ضد الاستعمار وقد شكلت هذه المجموعات النواتات الأولية للجيش الوطني بعد الاستقلال وقوات الحرس الوطني.كما ستتجه عديد حركات التحرر الوطني العربية نحو هذا الاختيار والاتجاه إلى السلاح لدحر الاستعمار كالثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية وحتى ثوار ظفار في عمان.
إذن اختيار السلاح لم يكن غريبا عن الثورات الوطنية والسياسية والاجتماعية إلا انه لابد من الإشارة إلى ملاحظتين هامتين ميزتا هذا الشكل من النضال.
الملاحظة الأولى أن الشكل العسكري لم يكن مهيمنا في الثورات بل كانت الغلبة دائما للنضال السياسي الذي لعب دورا كبيرا في تعبئة الناس في العمل الثوري.أما الملاحظة الثانية فان التوجه للنضال العسكري واختيار العنف المسلح كان في أكثر الأحيان دفاعيا ولم يكن هجوميا – فقد اختارت بعض الحركات الثورية اللجوء إلى الكفاح المسلح وبعض أشكال العسكرة للدفاع عن الناس أمام غطرسة القوى الحكومية. عديد الأسباب تفسر هذا الانصراف عن العنف في الحركات الثورية واختيار أشكال العمل السياسي والسلمي لعل أهمها أن الدول تتمتع بقوة عسكرية لا يمكن أن تضاهيها الحركات الثورية مما يجعلها تبتعد عن هذه الخيارات – كما يمكن كذلك أن نشير إلى تخوف ورفض الجماهير للعنف والعمل المسلح مما جعل الحركات التي تختار هذا التوجه نخبوية وبعيدة عن الناس مما سهل القضاء عليها.
هذه الأسباب وأخرى ساهمت في احتكار الدولة لما سماه عالم الاجتماع الألماني – ماكس فيبر Max weber- بالعنف الشرعي ودحر كل أشكال العنف الأخرى من المجال العام على مدى قرون.
إلاّ أن هذا الوضع سيتغير بعد الحرب العالمية الثانية ليعود العنف المسلح للحركات الثورية إلى صدارة الأحداث .وقد ساهمت الحركات المناهضة للفاشية والنازية في عودة النضال المسلح في العمل السياسي لعديد الحركات الشيوعية وحركات الأنصار خلال الحرب العالمية الثانية وستعرف الحركات المسلحة تطورا لا مثيل له بصفة خاصة في أمريكا لتصبح شكلا أساسيا للنضال السياسي إلى حد الأشهر الأخيرة عندما وصلت الحكومة الكولومبية إلى اتفاق مع آخر الحركات المسلحة في أمريكا اللاتينية.
ولفهم هذا التطور الكبير في الكفاح المسلح والحركات المسلحة في أمريكا اللاتينية وفي العالم لابدّ من التأكيد على ثلاثة عناصر أساسية هامة:
• العنصر الأول : هو الوضع العام الذي وصل إليه العالم وواقع الحرب الباردة مع ظهور المعسكرين الشرقي والغربي – وقد حظيت حركات التحرر الوطني بدعم كبير من قبل الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية الأخرى لا فقط على المستوى السياسي بل كذلك على المستوى العسكري مما ساهم في تنمية قدراتها القتالية وتمكينها كذلك من السلاح – وستصبح «الكلاشينكوف» رمزا لهذه الثورات وكذلك رمزا للدعم الذي ستتلقاه هذه الثورات من المعسكر الاشتراكي في تلك الفترة – وستلعب هذه الحركات الثورية دورا هاما في المنافسة السياسية بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي وتصبح رقما مهما في المعادلة السياسة الدولية.
• العنصر الثاني : والذي ساهم في تطور الخيار العسكري هو توجه الأنظمة الوطنية والدولة الوطنية في أمريكا اللاتينية واغلب البلدان الخارجة من الاستعمار في العالم نحو أنظمة سياسية كليانية واستبدادية – وهذا الاستبداد كان وراء نمو وتطور الاضطهاد والقمع والعنف ورفض كل أنواع التعدد والديمقراطية وقد ساهم هذا الانغلاق السياسي للأنظمة الوطنية وصعود الاستبداد وغياب كل إمكانات العمل السياسي السلمي والديمقراطي في صعود خيار السلاح والكفاح المسلح.
• أمّا العنصر الثالث والذي ساهم في تطور الحركات الراديكالية المسلحة فهو حجم الفوارق الاجتماعية في أمريكا اللاتينية وعديد البلدان العالم.فقد كانت اغلب اقتصاديات البلدان المستقلة حديثا فلاحية وتتميز بهيمنة كبار ملاك الأراضي والفلاحين على أراضي كبيرة بينما يعيش اغلب الفلاحين والعمال الفلاحين في حالة من الفقر والخصاصة والتهميش وقد شكلت جموع الفلاحين الفقراء الأرضية الخصبة لنمو هذه الحركات ولتطورها ولتشكل جنودها اذن ستكون هذه الظروف الموضوعية وراء تطور اختيار السلاح عند الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية وفي عديد الأصقاع الأخرى كالفيتنام وكمبوديا في آسيا والجزائر وانغولا وفلسطين.
وستكون اللحظة القيفارية لحظة فارقة وهامة.فقد كانت هذه الثورات ولحد هذه اللحظة ثورات يائسة وإمكانيات انتصارها محدودة إن لم نقل منعدمة.وستكون اللحظة القيفارية فارقة باعتبار أنها أثبتت أن إمكانية انتصار هذه الثورات ممكنة فكان انتصار الثورة الكوبية سنة 1939 بقيادة فيدرال كاسترو وتشي قيفارا نقطة هامة وأعادت الأمل الى هذا الاختيار المسلح للقيام بالتغيير السياسي والاجتماعي وستشهد هذه السنوات اشتعال الثورات المسلحة في مختلف أرجاء العالم وبصفة خاصة في أمريكا اللاتينية.وسيصبح تشي قيفارا الأب الروحي والمنظر لهذه الثورات ويقدم ما سماه بنظرية ELfoco «الفوكو» أو الخلايا الثورية المسلحة والقادرة على قلب أنظمة الحكم.ولعل احد أهم منظري هذا الخيار المسلح في تلك الأيام Regis Debray الفيلسوف والمثقف الفرنسي ورفيق درب فيدال كاسترو وتشي قيفارا في آخر أيامه في أدغال بوليفيا – وقد اصدر ريجيس دوجويه في تلك الأيام كتابا نظريا هاما تحت عنوان ‘ثورة في الثورة « انتقد فيه الخيار السلمي والنضال السياسي وأكد فيه أن التغيير الثوري يمر عبر اختيار السلاح.وقد ظهرت في نفس السنوات عديد التنظيرات الأخرى كالطريق الذي دافع عنه الصينيون وهو طريق الحرب الشعبية طويلة الأمد في إشارة إلى تجربتهم التاريخية والرحلة الطويلة أو La Grande marche وقد تمكنت هذه الثورات من تحقيق بعض الانتصارات لعل أهمها انتصار الفاتيكونغ في الفيتنام في بداية السبعينات والثورة الصاندينية في نيكارغو سنة 1979 ودخولها منتصرة إلى العاصمة ماناغوا.إلا انه في رأيي فان اغتيال تشي قيفارا منذ خمسين سنة كان بداية النهاية لاختيار السلاح وبداية عودة الروح لخيار الكفاح السلمي والجماهيري .
وأريد العودة إلى السؤال الثاني الذي طرحته في بداية هذا المقال والذي يهم أسباب انحسار وتراجع هذا الخيار وفي رأيي فانه يمكن تحديد أربعة أسباب وراء أزمة وبادية انهيار اللحظة الغيفارية :
• السبب الأول : يكمن في تغير المعطيات الدولية منذ بداية الستينات وبداية ما سمي بمرحلة التعايش السلمي بين المعسكرين الشرقي والغربي وكان لهذا التطور انعكاس هام على الوضع الدولي وتراجع التوتر بين المعسكرين – وقد تراجع دعم الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية بصفة عامة إلى الحركة الثورية وقد كان هذا التراجع هاما خاصة بعد أن قامت هذه الحركات بمهاجمة الاتحاد السوفياتي واعتباره قوة امبريالية بمستوى الولايات المتحدة الأمريكية.فكان القرار السوفياتي بإيقاف الدعم لهذه الحركات المغامرة وقد عاش تشي قيفارا هذا الوضع وقاسى منه خاصة بعد الخطاب الشهير في الجزائر سنة 1965 والذي هاجم فيه الاتحاد السوفياتي فكان أن رفض الحزب الشيوعي البوليفي الالتحاق بحركته ودعمها عند وصوله إلى بوليفيا في نهاية سنة 1966.
• السبب الثاني يخص التطور الذي عرفته الجيوش النظامية في بلدان امريكا اللاتينية بدعم من المخابرات الأمريكية في التصدي لحرب العصابات – وقد تكونت قدرات هامة في هذا المجال مكنتها من دحر عصابات الثوار والتصدي لها خارج الحروب الكلاسيكية وفي حروب العصابات.
• السبب الثالث يخص تراجع وعدم قدرة هذه الحركات الثورية على تعبئة جماهير عريضة خاصة بعد الإصلاحات وخاصة الإصلاحات الزراعية التي قامت بها بعض البلدان وتوزيع الأراضي والتي مكنت من تراجع الفقر والأزمات الاجتماعية في هذه البلدان.
أما المسألة الأخيرة فتخص شخصية قيفارا المعقدة فهو المناضل الملتزم ولكن في نفس الوقت كان معروفا بحدة طباعه وغلائه الإيديولوجي ورفضه لكل إمكانيات النقاش والحوار – فكانت علاقاته مع المناضلين من حوله صعبة إلى ابعد الحدود.فكان يرفض النقاش ويحاول الوصول إلى أهدافه ومطامحه في بعض الأحيان بطريقة يائسة وانتحارية.
التقت هذه العناصر لتكون وراء الانتهاء المأساوي لهذه التجربة وبصفة عامة لتجربة الكفاح المسلح ولتؤكد على أهمية النضال السياسي الجماهيري وكانت تجارب الثورات العربية أحسن مثال على هذه الدروس فلئن حققت تجربة تونس بعض النجاح في إطار التحول الديمقراطي بفعل تأكيدها وانخراطها في الطريق السلمي والسياسي فان التجارب التي راهنت على الحل العسكري كسوريا واليمن وليبيا انتهت إلى طريق مسدود والى مجازر مرعبة.