قهوة الأحد: حول بعض الأفكار الخاطئة في العلاقات الدولية

يعتبر الباحث وأستاذ العلاقات الدولية الفرنسي باسكال بونيفاس Pascal Bouniface احد أهم المختصين في هذا الميدان و يدير حاليا معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية والذي يعتبر كذلك احد أهم مراكز البحث والتفكير في هذا المجال .وكان هذا الباحث عضوا فاعلا

في الحزب الاشتراكي الفرنسي واحد مسؤوليه في مجال العلاقات الدولية إلا انه قرر الانسحاب منذ سنوات نظرا لمواقف الحزب في قضايا الصراع العربي الصهيوني والتي يعتبرها غير متوازنة وترجح كفة إسرائيل .

لقد أصدر باسكال يونيفاس العديد من المؤلفات والتقارير التي أصبحت مراجع هامة في مجال العلاقات الدولية .وقد تنوعت هذه المؤلفات في عديد الميادين والمجالات كالصراعات والأزمات الدولية والقضايا الإستراتيجية وحتى مجال الرياضة الدولية .
وسأستعرض في هذا المقال كتابا صغيرا ولكنه لقي نجاحا كبيرا لنفس الكاتب حيث تجاوزت مبيعاته 30 ألف نسخة ووصل إلى طبعته السابعة وعنوان الكتاب هو «50 idées reçues sur l’état du monde» أو «50 فكرة مسبقة عن العالم» وقد صدرت طبعته الأخيرة عن دار النشر الفرنسية Armand Colinمنذ أيام – وهذا الكتاب الذي لا يتجاوز عدد صفحاته 160 صفحة من الحجم الصغير هو من فئة الكتب البيداغوجية والتي هدفها تقريب المعرفة من المواطن وهو بالتالي موجه للجمهور العريض.
ويشير باسكال بونيفاس إلى أن هدف الكتاب الرئيسي هو تبسيط ووضع بعض القضايا الأساسية في العلاقات الدولية في متناول الناس العاديين وإعطاؤهم الأدوات والإمكانيات المعرفية لفهمها – ويشير المؤلف في تقديمه إلى أن مجال دراسة العلاقات الدولية يعاني من إشكالين هامين – الإشكال الأول هو التعقيد المبالغ فيه للقضايا الدولية والذي يضع الناس أمام عالم معقد يصعب فهمه وقراءته.ويجعل عملية التحليل والفهم بعيدة عن المواطنين والناس العاديين وتمر حتما بالخبراء والمختصين الذين يملؤون صفحات المجلة والحصص التلفزية والبرامج الإذاعية .

التحدي أو الإشكال الثاني الذي يعاني منه مجال العلاقات الدولية هو التبسيط المبالغ فيه والذي يجعل العالم مقتصرا على ثنائية الأبيض والأسود والتي لا ترقى إلى فهم تعقيدات العالم وقراءة تناقضاته و تحدياته.
وبالتالي يحاول هذا الكتاب الخروج من هاتين القراءتين وتقديم فهم نقدي للعلاقات الدولية وبصفة خاصة الأفكار الجاهزة التي تروج لها بعض الصحف وأجهزة الإعلام لتصبح حقائق ثابتة لفرط تداولها بين الناس .
ولن نأتي في هذا المقال على مجمل الخمسين فكرة السائدة التي تناولها المؤلف بالتمحيص والنقد بل سنحاول التعرض لبعضها وتقديمها.

المسالة الأولى التي تعرض لها هذا الكتاب تخص الحقائق التي تتعرض لها الكتب والفكرة السائدة التي تقول أن الحقيقة ثابتة مادامت تعرضت لها الكتب ويحاول المؤلف هنا دحض هذه الفكرة و التأكيد أن الكتب ليست محايدة بل تحمل أراء وأفكار كاتبيها ومؤلفيها وتحاليلهم . ويعطي المؤلف مثال الكتب التاريخية وبصفة خاصة الكتب التي تتناول الحرب في الجزائر .ففي هذا المجال لاتزال الكتب الرسمية الفرنسية تشير إلى المحاسن والأشياء الايجابية التي قام بها الاستعمار .بينما تؤكد الكتب الجزائرية على الطبيعة الاستعمارية لهذه الحرب التي عملت على مسخ الشخصية الوطنية وإلحاق الجزائر نهائيا بفرنسا.

إذن تحمل الكتب مهما كان مجالها قراءة ورؤية وتدافع عن وجهة نظر معينة فهي بالتالي ليست محايدة ووجود فكرة أو رأي في كتاب لا يمكن أن يكون مؤشرا على أن هذه الفكرة هي حقيقة موضوعية.
ويحتوي الكتاب على قراءة نقدية لعديد الأفكار تتراوح بين الجوانب المنهجية والنظرية والتحليلية وسنحاول في بقية هذا المقال التعرض لجملة الأفكار والآراء التي تناولها الكاتب بالتحليل والنقد ولاسيما التي لها علاقة بالعالم العربي والإسلامي.
وأولّ الأفكار السائدة أو الرائجة في الغرب هي فكرة أن الإسلام معاد للديمقراطية وأنّ حقوق الإنسان وحرية المرأة عصيّة على البلدان العربية والإسلامية.

وهنا يقدم الكاتب عديد المعطيات لدحض هذه الفكرة ونقدها –ولئن يشير الكاتب إلى أن عديد البلدان العربية والإسلامية لاتزال ترزح تحت الديكتاتورية والاستبداد فان هذه الوضعية راجعة لظروف اقتصادية واجتماعية وتاريخية لم تسمح بالتحول الديمقراطي في هذه البلدان ويشير الكاتب إلى أن ثورات الربيع العربي وبالرغم من تعثرها تفتح المجال لبداية مرحلة سياسية جديدة ستكون الحرية والديمقراطية احد أسسها. فكرة أخرى سائدة يتعرض لها الكاتب بالنقد وهي القائلة أن الصراع السني الشيعي هو الذي يهيكل ويقود العالم العربي . وهنا يعود الكاتب إلى الجذور التاريخية لهذا الصراع منذ سنوات الإسلام الأولى – فيقدم بعض المعطيات عن الانشقاق السني الشيعي.

ثم يستعرض الخلافات الحالية فيؤكد الجوانب السياسية التي ساهمت في تأجيج هذا الصراع فيشير إلى الأسباب السياسية وبصفة خاصة إلى الثورة الإيرانية التي غيرت بطريقة جذرية التوازنات السياسية في المنطقة وجعلت من المدّ الثوري تهديدا مباشر للأنظمة التيوقراطية في الخليج العربي وكانت هذه الصراعات وراء حرب الخليج بين إيران والعراق والتي استنزفت طاقات وخيرات البلدين .كما يشير الكاتب كذلك إلى الخلافات الحدودية بين إيران وبلدان الخليج والتي لعبت كذلك دورا مهما في تعكير العلاقات وتوتيرها. كما يؤكد الكاتب على أهمية التوازنات الدولية ومواقف البلدان في المنطقة منها قد اثر كذلك على العلاقات بين إيران وجيرانها.

فأغلب بلدان الخليج اختارت الانطواء تحت المظلة الأمريكية بينما ساهمت إيران إلى جانب سوريا وحزب الله في لبنان في بناء حلف آخر رافض للتسوية الأمريكية وداعم للنضال ضد العدو الإسرائيلي.
إذن في بعض صفحات قدم الكاتب رؤية شاملة للصراع والخلافات في المنطقة أكدت على تشابك الجوانب السياسية والجغرافية والتاريخية والفكرية ليكون الخلاف السني الشيعي احد جوانبها وليس الجانب الوحيد لفهم العلاقات والصراعات بين إيران والبلدان العربية الأخرى.

فكرة أخرى يتعرض لها الكاتب وهي أن فكرة التدخل الأجنبي في المسائل الداخلية هي فكرة تقدمية ويعود الكاتب إلى بدايات فكرة التدخل والتي يعود إلى حرب البيافرا بين سنوات 1967و1970 والتي نتجت عنها مجاعة كبيرة وكان لغياب الدول وعدم قدرتهم على التدخل في البلدان التي تعرف أزمات إنسانية دور في دفع منظمات المجتمع المدني في هذا المجال فظهرت منظمة «أطباء بدون حدود» والتي لعبت دورا كبيرا في دعم المواطنين العزل في مناطق الحروب والنزاعات

وقد ساهمت هذه الحركية ونشاط بعض الشخصيات مثل الوزير الفرنسي السابق «Bernard Kouchner في ظهور فكرة حقّ التدخل الإنساني التي أوجدها الكاتب الفرنسي Jean François Revel سنة 1979 والتي تعطي الحق لدولة أو لمجموعة من الدول بتجاوز سيادة الدول داخل حدودها والتدخل لأسباب إنسانية من اجل حماية مواطنيها من بطش الحكام. ولئن أشارت عديد الآراء والتحاليل إلى أن هذا التطور مهم وهو تجاوز لمبدإ السيادة الموروث عن صلح Westphalie ويعطي أهمية لأصوات المواطنين أمام القوة القاهرة للدول فانه قد عرف نقدا كبيرا بصفة خاصة من دول الجنوب التي اعتبرت هذا الحق هو في نهاية الأمر أداة تدخل لبلدان الشمال وللقوى العظمى للتدخل في البلدان الأخرى حسب مشيئتها وخاصة حسب مصالحها .

عديد الأفكار الأخرى تعرض لها هذا الكتاب كنظرية المؤامرة ودور الأمم المتحدة في الخلافات الدولية وقد قدم الكاتب لمجمل هذه الأفكار قراءة نقدية ساهمت مساهمة فعالة في تفكيكها وإعطاء صورة أكثر توازنا للعلاقات الدولية.

يشهد العالم اليوم تحولات كبرى على مستوى التوازنات الكبرى فلئن خرجنا من عالم الحرب الباردة الموروث عن الحرب العالمية الثانية والقائم على توازن الرعب بين القوتين العظميين فان عالم اليوم يتميز بنسبة كبيرة من عدم الاستقرار والتذبذب مما يجعل التحاليل والبحوث خاصة النقدية منها ضرورية لفهم حركة العالم وديناميكيته.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115