في المحافظة على السلم العالمية وعلى نمو الاقتصاد العالمي والرفاه.
ومع انتخاب ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية لم يعد هذا البرنامج واختياراته مجرّد فرضيات نظرية بل احتمالات واقعية سيكون لها تأثير على الواقع الجديد ولئن لا تزال اختيارات الرئيس الجديد في السياسة الأمريكية الداخلية مجال الدرس فقد كانت في قراراته الأولى في مجال السياسة الخارجية في تناغم مع برنامجه الانتخابي .
فكان احد أول قراراته يخص المهاجرين الوافدين من سبع بلدان إسلامية ورفض دخول التراب الأمريكي .
وقد أثار هذا القرار العديد من ردود الفعل من قبل عديد الأطراف فقد قررت إيران استعمال مبدإ المعاملة بالمثل ورفضت دخول المواطنين الأمريكيين طالما ترفض أمريكا دخول الإيرانيين وتطبق قرارات الوافد الجديد على البيت الأبيض . إلا أنّ القضاء الأمريكي رفض هذا القرار ودخل في حرب قانونية مع الإدارة الأمريكية الجديدة في مجال الهجرة.
والى جانب هذا القرار فقد أكد الرئيس ترامب عزمه على تحويل كل وعوده الانتخابية إلى قرارات عملية ومن ضمن هذه الوعود نذكر بناء جدار واق مع المكسيك لمنع دخول المهاجرين المكسيكيين وقد جوبهت دعوة الرئيس الأمريكي للمكسيك بالمساهمة في بناء هذا الجهد برفض مطلق من قبل الرئيس المكسيكي.
كما أكد كذلك الرئيس الأمريكي الجديد عزمه على وضع حدّ لاتفاقيات التبادل الحرّ التّي صادق عليها سلفه الرئيس أوباما باعتبارها تهدد الاقتصاد الأمريكي وواقع التشغيل في الولايات المتحدة . ثمّ أكد الرئيس الجديد عزمه على المضي قدما في دعوة الشركات الأمريكية إلى التراجع عن منطق العولمة والرجوع إلى الإنتاج في أمريكا في اقرب الأوقات .
كل هذه الآراء وترجمتها إلى مواقف وقرارات من قبل الرئيس الأمريكي أثارت الكثير من المخاوف والقلق من قبل المتابعين للعلاقات الدولية من مسؤولين سياسيين ومحللين وخبراء ومختصيّن . فالعالم الجديد الذي ينبئ به وينادي له ترامب هو العودة إلى الواقع الذي عرفناه فيما بين الحربين العالميتين وهو عالم التقوقع على المصالح الوطنية ورفض الانفتاح على العالم. وهذا التصور يرتكز على المصالح الوطنية الضيقة ويعتقد راسخا أن الدفاع عنها يمر عبر رفض الآخر والاهتمام بحماية الحدود الوطنية وتفادي التعاون وفتح المجال لبناء علاقات تكامل واحترام. وقد أدت هذه السياسات في فترة ما بين الحربين إلى احتداد الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 وبصفة خاصّة إلى صعود القوى الفاشية والنازية والى أحلك الفترات التاريخية التي عرفتها الإنسانية خلال الحرب العالمية الثانية مع تدمير الإنسان.
هذا القلق وهذه المخاوف دفعت العديد من المفكريّن والمهتميّن بالعلاقات الدوليّة الى التفكير في عالم ترامب ونظرته للعلاقات الدوّلية . وقد أشارت عديد المقالات والدّراسات إلى خطورة صعود النظرة الشوفينية وسيطرتها على العلاقات الدولية ولعل أهم نقد يوجه لهذه الخطوة جاء من النخب الأمريكية التي رفعت صوتها ضد العالم الجديد الذي يهيئ له الرئيس المنتخب دونالد ترامب .
وفي هذا المقال أريد الإشارة إلى عدد خاصّ لأهم مجلة في العلاقات الدولية وهي المجلة الأمريكية Foreign Affairs أو العلاقات الخارجية والتي تعتبر أهم مجلة عالمية في هذا المجال . وقد خصصّت هذه المجلة عددها الأخير لجانفي وفيفري 2017 لمستقبل العلاقات الدولية بعد انتخاب ترامب وقد جاء عنوان هذا العدد الخاص نهاية نظام – مستقبل العلاقات الدولية « وقد دعت المجلة أهم الأخصائيين الأمريكيين في العلاقات الدولية كـRichard Hass و joseph S.Nye و Rober Hible للمساهمة في هذا العدد الخاصّ.
ولعل الرأي الغالب في هذا العدد وعدد هؤلاء الأخصائيين هو التخوف والقلق إزاء أراء وتحاليل الإدارة الجديدة والرئيس الجديد والداعية إلى التقوقع داخل الحدود الوطنية وعدم الاهتمام بالنظام العالمي . ويشير اغلب المحللين أن هذه النظرة تعيدهم إلى فترة ما بين الحربين والسياسات التي تبعتها الدول الكبرى في تلك الأيام والتي زادت في حدّة الأزمة الاقتصادية وانتهت بحرب عالمية كادت أن تعصف بالإنسانية وتركت لحدّ الآن جرحا عميقا في الذاكرة الجمعية.
وقد بقيت أمريكا لسنوات طويلة بعيدة عن النظام العالمي وتحدياته وحروبه يحميها في ذلك موقعها الجغرافي وبعدها عن أوروبا موقع الأحداث العالمية في تلك الأيام
ولم تخرج أمريكا عن عزلتها هذه إلا عندما قرر الرئيس الأمريكي ويلسون الدخول إلى جانب فرنسا وبريطانيا ومحاربة ألمانيا. إلا انه اثر الحرب العالمية الأولى رجعت أمريكا إلى عزلتها ولم تسع للعب دور في العلاقات الدولية.
وستبدأ اثر نهاية الحرب العالمية الفترة العصيبة للعلاقات الدولية حيث قررت كل الدول الكبرى حماية مصالحها الآنية في المجال الاقتصادي والسياسي وعدم الاهتمام بالنظام الدولي وضرورة بناء علاقات تعاون وشراكة من اجل حماية السلم ودعم العلاقات التجارية والنمو الاقتصادي المشترك. وحتى عصبة الأمم التي تم إيجادها اثر الحرب لترعى التعاون المشترك ولكن المؤسسة التي تدافع عن النظام لم تلعب الدور المناط بعهدتها وبقيت مهمشة وغير فاعلة.
وستبدأ وتتدعم هذه السياسات « الوطنية «وتنفي التعاون الأولي مع الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929.
وفي خضم هذه الأزمة ستضع الدول الكبرى سياسات حمائية كبيرة للدفاع عن مصالحها التجارية وعن بضائعها لتتحول هذه السياسات إلى حروب تجارية ضروس سينتج عنها تراجع كبير للتجارة الدولية وحركة البضائع بين الدول وستزيد هذه السياسات من حدّة التنافس بين الدول و ستعمّق من الأزمة الاقتصادية.
ولن تقف هذه السياسات المصلحية على المجال الاقتصادي بل ستلعب دورا هاما على المستوى السياسي وستغذي مطامع الدول الكبرى في التوسع والهيمنة على العالم. وستزيد هذه التوترات والنزاعات من حدة الأوضاع السياسية العالمية وستساهم في صعود القوى السياسية الشوفينية الرافضة لكل تعاون بين الدول .
ستساهم الأزمة الاقتصادية الخانقة وتصاعد البطالة في أهم الدول الكبرى والتضخم المالي والسياسات الحمائية في الميدان التجاري إلى جانب تصاعد الخلافات والنزاعات السياسية والمطامع الاستعمارية في دخول العالم في فترة اضطرابات ستنتهي بالحرب العالمية الثانية لتعرف الإنسانية أحلك فتراتها وأبشع الجرائم ضد الإنسانية والتي كادت أن تنفي برنامج تحرر الإنسان ونهاية تبعيته للآخر.
ويؤكّد اغلب المختصين في العلاقات الدولية أن تغليب السياسات المصلحية وغياب التعاون كانا وراء انهيار النظام العالمي واندلاع الحرب العالمية الثانية وهذه القناعة كانت وراء الإجماع بين الدول المنتصرة في الحرب على ضرورة بناء نظام عالمي جديد يكون فيه التعاون والتآزر من المبادئ الأساسية .
وفي هذه الإطار تمّ إنشاء المؤسسات والمنظمات التي رعت هذا النظام وساهمت في الدفاع عنه.
فكان إنشاء المنظمة الأممية لإرساء التعاون في الميدان السياسي والأمني وجاءت كذلك المنظمات بريتون وودز للتعاون في المجال المالي والاقتصادي و إرساء النظام الاقتصادي العالمي .
وبالرغم من التنافس والأخطار التي حدقت بهذا النظام العالمي وبصفة خاصة أثناء الحرب الباردة والتوتر الكبير الذي خلقته المنافسة بين قطبي الصراع أمريكا و العالم الحرّ من جهة والعالم الاشتراكي من جهة أخرى بزعامة الاتحاد السوفياتي فلقد حافظ النظام العالمي على الاستقرار والسلم وبقيت الحروب والنزاعات محدودة ولم تتوسع لتصبح حروبا عالمية.
إلا أن اغلب الخبراء يشيرون إلى أن هذا النظام العالمي وصل إلى نهايته لعديد الأسباب لعل من أهمها هو صعود العولمة ومحاولات تجاوز الدولة الوطنية التي شكلت أساس النظام العالمي الموروث من الحرب العالمية الثانية .
كما عرف النظام العالمي ظهور بعض القوى الأخرى من الجنوب كالصين والهند وغيرها من البلدان مما تطلب إعادة توزيع الأدوار والقطع مع الهيمنة الأمريكية والغربية على العلاقات الدولية وخلافا للمواقف الشعبوية الداعية للانكفاء على الذات والتقوقع داخل الدولة
الوطنية فان أهم الخبراء والمختصين ينادون إلى إعادة بناء نظام عالمي جديد منفتح ومتعدد ويعتمد على التعاون والتآزر
وقد أكد هذا للعدد الخاص على جملة من المبادئ التي يجب أن يرتكز عليها النظام العالمي الجديد وهي الحوار والنقاش بين القوى الكبرى والدول الأخرى . كما يؤكد الخبراء كذلك على أهمية التعاون الاقتصادي ودفع التنمية ويشير كذلك إلى أهمية المبادئ السياسية الليبرالية و احترام الديمقراطية . كما يؤكد الخبراء على أهمية الاستقرار العالمي وتفادي الحروب والنزاعات ولكن الشيء المهم هو تأكيد هؤلاء الخبراء انه لا يمكن لأمريكا من مواصلة هيمنتها على العالم ولابد من سياسة جديدة تتميز بالأخذ والعطاء .
هذه إذن جملة المبادئ التي لابد أن تكون الأساس لنظام عالمي جديد متعدد الأطراف ومنفتحا على الآخر.
لقد أثار صعود القوى الشوفينية الرافضة للآخر في خضم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتخبط فيها العالم الكثير من المخاوف والقلق
وأشار انتخاب ترامب في أمريكا إلى أن هذه القوى لم تعد هامشية كما كانت في السابق بل أصبحت في قلب المعادلة السياسية وكذلك الشأن في أوروبا . وكما أشار هذا العدد الخاصّ من مجلة Forgien Polcy فان صعود هذه القوى وتراجع فكرة التعاون الدولي وتغليب المصالح الآنية قد يقود العالم إلى المآسي التي عرفناها اثر نهاية الحرب العالمية الأولى والتي قادت الإنسانية إلى أحلك فتراتها . ولتفادي هذا الوضع المتأزم والمنذر بعواقب وخيمة لابد للقوى الديمقراطية من العمل بجدّية للخروج بقرارات وفتح أفاق جديدة للتعاون الدولي والسلم العالمية .