وقد تم نشر عديد المراجع والدراسات لفهم انعكاس الانترنت والشبكات الاجتماعية على عالمنا ولعل أحد أهم تأثيراتها هو اختزال الجغرافيا والمسافات فأصبحنا نتواصل مع الآخر والبلدان الأخرى بطريقة عينية وبدون أن نتحمّل مشاق السفر والتنقل.
وأكدت دراسات أخرى أن الشبكة الاجتماعية ساهمت كذلك في اختزال الوقت فأصبحنا نتنقل بين المراحل التاريخية بسرعة كبيرة كما أن الوقت أصبح محدودا وقلصت بالتالي هذه التكنولوجيات من فترة الانتظار والترقب.
هكذا، إذن ساهمت التكنولوجيات الحديثة في تغيير العالم بصفة راديكالية وهذا التغيير ليس الأول من نوعه فقد ساهمت الثورات التكنولوجية في تحويل العالم وتثويره منذ ظهور النظام الرأسمالي والثورة الصناعية في بداية القرن التاسع عشر ويؤكد أخصائيو التكنولوجيا أن التطورات والثورات الكبرى تخص دائما ثلاث مسائل أساسية: الطاقة والنقل ووسائل الاتصال.
وقد عرف العالم إلى يومنا هذا ثلاث ثورات تكنولوجية غيرت وجه المجتمعات وساهمت في تثوير النظام الرأسمالي من خلال إيجاد علاقات إنتاج جديدة لعبت دورا هاما في دفع الإنتاجية وفعالية المؤسسات والعمل. الثورة الأولى بدأت في منتصف القرن التاسع عشر مع ظهور الفحم والمحركات الذي تستعمله وقد ساهمت هذه الطاقة الجديدة في ظهور النظام الرأسمالي ونموه وظهور المؤسسات الصناعية الأولى كما ظهرت آلات النقل الأولى والقطارات أما في مستوى الاتصال فقد كانت هذه الثورة وراء التطور الكبير الذي عرفته الطباعة وظهور صناعة النشر وتطورها على مستوى كبير لم تعرفه من قبل.
أما الثورة الثانية فقد ظهرت في بداية القرن العشرين وشملت تحولا تكنولوجيا كبيرا سيجعل من البترول والغاز أهم مراجع الطاقة وستعرف هذه الفترة تطورا كبيرا لوسائل النقل لتكون السيارة أهم وسائل التنقل في المجتمعات المتقدمة وقد كان للسيارة دور هام إلى درجة أنه أصبح يطلق على النظام الاقتصادي الذي ساد في العالم إلى بداية سبعينات القرن الماضي النظام الفوردي le système fordisty نسبة إلى أحد مهندسي وأكبر مصنعي السيارات في العالم وهو هنري فورد.
وقد عرفت هذه الفترة كذلك ثورة اتصالية هامة مع ظهور أولى أجهزة الهاتف التي ستلعب دورا كبيرا في اختزال المسافات وتسهيل الاتصال في العالم.
وكانت هذه الثورة الاتصالية الثانية وراء إحدى أهم فترات النمو الاقتصادي في العالم خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وأصبحت هذه الفترة تعرف بالثلاثين الذهبية أو les trente glorieuses وهي الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى منتصف السبعينات.
وتأثيرات الثورات التكنولوجية لا تقتصر فقط على المستوى الاقتصادي بل كذلك تشمل الجانب الفكري والسياسي فقد ساهمت هذه الثورات التكنولوجية في دعم الحداثة الفكرية والسياسية التي عرفتها أوروبا مع الأنوار وحققت على المستوى العملي مبدأ الحرية الذي نادى به فلاسفة الأنوار. فالعلاقة مع صاحب العمل أصبحت تعاقدية ولم تعد للرأسمالي سلطة الحياة والموت على العامل كما كان ذلك في الأنظمة الما قبل رأسمالية. وقد ساهمت هذه الثورة التكنولوجية في بروز هذه العلاقة التعاقدية الجديدة وفي منح العامل وبالرغم من الغربة التي يعيشها هامشا كبيرا من الحرية وفي فك العلاقة المباشرة والعنيفة للأنظمة الأخرى.
وهذا التأثير سيتواصل على الجانب السياسي لأن التجمعات الصناعية والمعامل الكبرى ستساهم في ظهور النقابات والأحزاب السياسية الحديثة وستلعب هذه الأحزاب دورا مهما في تركيز الأنظمة الديمقراطية التي ستحمي الأفراد وتدعم حريتهم واستقلاليتهم.
إذن ستساهم الثورة التكنولوجية الثانية وظهور التجمعات الكبرى في تركيز ودعم الحداثة الفكرية والسياسية من حيث أنها ستساهم في ترسيخ حرية الفرد ونمو وتطور الديمقراطية السياسية والتعدد الفكري والسياسي.
كما كان الشأن لكل الثورات التكنولوجية فإن الثورة المعلوماتية سيكون تأثيرها لا فقط في المجال الاقتصادي بل ستكون لها انعكاسات كذلك في المجال الفكري والسياسي ففي المجال الفلسفي والفكري فإن انتقال العالم من المجال المادي والحسي إلى المجال الافتراضي سيكون له انعكاسات هامة على فلسفة الأنوار والحداثة التي ستنحسر وتتراجع أمام صعود فلسفة ما بعد الحداثة والتيارات الفكرية الرافضة لهيمنة مشروع الحداثة وهيمنته على الفكر ففكرة اليقينية certitude وهيمنة العلم والمناهج العلمية الصحيحة لمعرفة ولمناهج أقل يقينية وموغلة في التساؤل والشك. كما خلفت تعدد الروايات pluralité des récits الفكرة القديمة والمنهجية التي تؤكد على وحدانية وتفوق الحلول العلمية على كل الروايات الأخرى.
وقد ساهمت الشبكة العنكبوتية في التعريف بعديد الروايات حول كل القضايا المطروحة للنقاش مما قلص من دور العالم والبحث العلمي كماسكين للحلول الوحيدة الممكنة وتأثيرات هذه الثورة التكنلوجية لن تقتصر على المجال الفكري والفلسفي بل ستمتد كذلك إلى المجال السياسي ودخول الشبكات سيكون وراء ثورة لاتزال آثارها قائمة إلى اليوم ستقض مضاجع الهياكل السياسية التقليدية كالأحزاب والموروثة من مجتمعات الحداثة.
ولعل أول زعيم سياسي دخل عالم الشبكات الاجتماعية والانترنت واستعمله بطريقة فعالة لصالحه هو الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما. وقد كان أوباما أقل مرشحي الحزب الديمقراطي حظوظا لنيل دعم الحزب باعتبار صغر سنه ومحدودية تجربته السياسية وكذلك لون بشرته.
إلا أنه في النهاية تمكن لا فقط من الفوز على أغلب مرشحي الحزب الديمقراطي بل كذلك في الفوز بالانتخابات الرئاسية في دورتين وقد أدخل أوباما في ذلك الوقت ثورة سياسية باعتبار اعتماده بالأساس على الشبكة الاجتماعية وكل وسائل الاتصال الاجتماعي على الانترنت.
وقد لعبت شبكات التواصل الاجتماعي دورا أساسيا في بعض المحطات الانتخابات الأخيرة فمثلا تشير إحصائيات الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة إلا أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب له 15.7 مليون صديق على موقعه في الفايس بوك وأن غريمته لا يتجاوز عدد أصدقائها 10 ملايين. كما تشير هذه الإحصائيات إلى أن تعليقات دونالد ترامب في الحملة الانتخابية تحصلت في المعدل على 57 % من الملاحظات مقارنة بكلينتون ولو عدنا إلى الانتخابات الأولية في فرنسا عند الحزب اليميني فإننا نجد كذلك نفس النتائج فالمرشحون الذين تمتعوا بدعم هياكل الحزب وهم ساركوزي وآلان جيبي alain juppé قد فشلوا فشلا ذريعا مقارنة بالمرشح الذي لم يتمتع بدعم الحزب أي فرنسوا فيون ولكن بالمقابل فإن فرنسوا فيون له أكبر عدد من الأصدقاء على فايسبوك الذين تجاوزوا 220.000 بينما لم يتجاوز أصدقاء جيبي juppé 116.000 صديق.
هذه الملاحظات والإحصائيات تشير إلى تراجع المؤسسات السياسية التقليدية كالأحزاب والمنظمات المهنية لفسح المجال للشبكة العنكبوتية لتصبح مجال الفعل والعمل السياسي.
عديد الأسباب تفسر هذه النقلة ونهاية السياسة بمعناها التقليدي كلقاء مباشر بين المواطن والمسؤول ومن ضمنها تراجع التجمعات العمالية والصناعية الكبرى التي كانت في السابق نقطة للعملية السياسية في مفهومها التقليدي والكلاسيكي.
وفي نفس الوقت فإن صعود العالم الافتراضي قد قلص العلاقة المباشرة لتصبح العلاقة الافتراضية وغير المباشرة عنوان المرحلة السياسية الجديدة في فترة ما بعد الحداثة.
وقد كان لهذا التطور تأثير كبير على الأحزاب التقليدية المرتبطة بعالم الحداثة والتي وضعت كل ثقلها في العلاقات المباشرة والمادية مع ناخبيها الذين تآكلوا مما يفسر تراجع هذه الأحزاب وأزماتها.
هكذا لا تقتصر ثورة الأنترنت على الجوانب الاقتصادية بل تمتد كذلك إلى الجوانب السياسية والتي تساهم اليوم في إعادة بناء الديمقراطية ونهاية السياسة بمعناها التقليدي.