فنان سكنه الوطن وآلامه فحولهما الى عمل مسرحي وكلما انجز مسرحا انتصر فيه الى الذات المبدعة والحالمة، هو عماد المي ناحت مسرحية «ثقوب سوداء» التي قدمت في اليوم الثالث لتظاهرة «الخروج الى المسرح».
«ثقوب سوداء» اخراج عماد المي عن نص «تراجيديا الديوك» لنور الدين الورغي وتمثيل طلال ايوب وغسان الغضاب واسماء مروشي وصوت وغناء هيثم حذيري ومؤثرات موسيقية زين عبد الكافي واضاءة رياض توتي وملابس عبد السلام الجمل وتوظيب عام صحبي بن حسن، هي صرخة ضد الحرب والموت.
في التناصف بين الشخص والشخصية.. صدق الاداء وإتقان للمهنة
موجع هو الوطن، منهكة مسؤولياته وآلامه التي يحملها فقط الصادقون، مؤلم ان يكون الانسان واعيا بمشاكل وطنه ومحاولا البحث عن حلول، موجع هو الصدق في التعامل مع الوطن، من نص حقيقي ولصيق بأوجاع الوطن وآلام صاحبه انطلقت الرحلة المسرحية لعماد المي ليكتب مسرحيا نص «تراجيديا الديوك» لنور الدين الورغي.
اجسادهم حمّالة رسائل، اجسادهم تكتب افكارهم وتنقل بصدق وجع النص المكتوب وتحوله الى منطوق، في عمله يعتمد المخرج على براعات الممثلين وزادهم التقني ليقدموا نصا مسكونا بالنقد وأفكار تدافع عن الانسان الحالم وتصيغ وجع الحرب وثقلها على الروح.
اجساد الممثلين تكون مطية لإيصال شيفرات المسرحية، ثلاثة اجساد تجري لدقائق على الركح وكأننا بالمخرج يضع جمهوره امام عملية بحث سريعة عن حقائق تتعلق بالوطن والإنسان، ثم تتضح ملامح الشخصيات تدريجيا حسب سيرورة العمل دراميا، فتكون الاجساد حمالة معان، اجساد منهكة ومتعبة تحاول البحث داخلها عن معاناة الذات والآخر، فلغة الجسد في المسرحية وسيلة ليفككك الممثل واقعه وينقد مشاكله ويقدمها بطرح جريء وأداء تمثيلي مربك.
تتضح ملامح الجسد ليكتشف المتفرج انه امام عسكري، ببدلته العسكرية الخضراء وحذائه الاسود المنهك كما جسد صاحبه والحقيبة الثقيلة، عسكري يهرب من خطر ما، يركض في فضاء محدد وكأنه يصارع اللاشيء، ثم يتحدث عن الحرب خلف التلة، جسده يستحضر حكايات الماضي، ينطلق قويا متفاخرا فهو «بلقاسم بوبياصة» اشجع العساكر وامهرهم رماية وإصابة للعدوّ «عسكري، الانضباط،نحمي كل شبر من بلادي،نفرح كي نرى العلم يرفرف، ويدق قلبي وقت نسمع النشيد»، للحظات يلوّن الممثل ملامح الوجه كما تشاء الشخصية، حسب طريقة السرد يضع ملامح الحزن او الفرح او الخوف او الغموض، جميعها تعبيرات جسدية-ذهنية يبدع غسان الغضاب في تقمصها والانتصار لشخصيته والتماهي المطلق معها ليقدم صراع الذات مع الحياة والموت وهو يقف فوق لغم.
تتبعه شخصية أخرى جسد غير واضح يحاول اللحاق بالشخص الاوّل، لكنه هو الاخر يجد نفسه فوق ارض مزروعة بالألغام ويجبر على الثبات والوقوف، الشخصية الغامضة الملامح مع النص يتضح انها لفنان، كان يحلم بالجمال، يمارس الموسيقى والمسرح لكنّ الحرب حولته الى متشرد يبحث عن الفتات ليقتات، الممثل طلال ايوب يجسد شخصية الفنان-المعدم، لينطلق الحوار بين الشخصيتين، كلاهما مجبر على الوقوف بطريقة ما في مربع ضيّق هو الحيّز المكاني لأحداث العمل، فتبدئ الذاكرة في التخيل وكتابة فصول كثيرة من الحياة الماضية والقادمة، حياة شخصين جمعتهما الصدفة فوق لغم تحت بقايا «قنطرة العشاق» بينهما والحياة خطوة، وتفصلهما عن الموت تنفيسة.
تتسارع الاحداث والحكايات وأجساد الممثلين ثابتة في مربعها الضيق، تعاند الموت وتساكش الحياة، تبوح القلوب بأسرارها المنسية، تبكي القلوب وطنا دمرته الحرب، ويقرآن رسائل الجنود الى امهاتهم «يا امي كان جابوني ليك حيّ في بطنك ادفنيني وكان جابوني ميت عاودي اولديني»، كلا الممثلين انفصل عن ذاته وتماهى مع الشخصية، كلاهما يخرج زاده التمثيلي ليكون صادقا امام الجمهور وأمام نفسه الأخرى، لغسان الغضاب وطلال ايوب قدرة على شد انتباه المتلقي وهناك «كيمياء» بينهما تثبت نجاحهما كلما صعدا على الخشبة، فلهما القدرة على التخيل والارتجال وتقمص الشخصية المسرحية تقنيا حد التماهي معها، تلك الشخصية التي تنتهي اماما شخصية الممثل الحقيقية، لتصبح الشخصية المسرحية اساس اللعبة وقوامها.
شخصيات ثابتة في مكانها، تلعب دورها وهي واقفة بطريقة واحدة، يشعرك الممثل انه يقف على اللغم حقيقة لا تمثيلا، يتسلحون بقدراتهم التمثيلية ليقنعوا الجمهور ويقدموا رسائل المسرحية، اما الشخصية الثالثة، حرة تتحرك بتلقائية على الفضاء، حارسة الذاكرة والمكان «روحية» (اسماء مروشي) هو اسمها وهي زارعة الالغام في المكان انتقاما ممن دمر القنطرة، وطيلة العمل تتحرك راقصة وساخطة، ترقص وتنطلق كفراشة تريد فقط اعادة القنطرة كما السابق، «روحية» الشخصية الثالثة الحرّة، هي الاخرى تسقط في فخ الالغام التي زرعتها وتجبر على الوقوف مثل البقية وكانّ بوقوفها قد تتوقف ماكينة الحرب.
المسرح مساحة للحب لا مساحة للخوف
«ثقوب سوداء» مسرحية عن نص لنور الدين الورغي، وجع الورغي في الكتابة نقله الممثلون على الركح، نقلوا للجمهور وجع الوطن وآثار الحروب ودمارها على النفس البشرية، احداث المسرحية صالحة لكل زمان ومكان ليست مرتبطة بفترة تاريخية محددة لكنها مربوطة فقط بالحرب اينما كانت، الحرب التي تتركب ثقوب سوداء في الذاكرة،ثقوب كنابة عن الالم والخوف والوجع، تلك الثقوب تشبه ثقوب الرصاص على الجدران يمكن اصلاحها لكنّ الاثر يبقى دائما كذلك ندوب الحرب على الانسان وذاكرته وروحه.
«ثقوب سوداء» مسرحية تؤكد ان هذا العالم مزروع بالكثير من الالغام، فالفقر لغم والمرض لغم والجهل لغم والرشوة لغم والاستبداد والاستبلاه والاستغلال لغم والخيانة لغم والحماقة وانكار الذات لغم كذلك.
«ثقوب سوداء»نص موجع وأداء صادق يتماهى مع مقومات السينوغرافيا من اضاءة تصبح شخصية أخرى فالإضاءة جزء من توليفة إبداعية، الاضاءة في العمل تتتماهى مع الاحساس البشري بالخوف او الأمان الاضاءة مرة تخاطب الروح فتكون صفراء خافتة وأحيانا تخاطب العقل فتصبح حمراء كما دماء الحرية، كذلك اعتمدوا على مجنون بالموسيقى فكانت الصياغة الموسيقية لزين عبد الكافي تغري باغماض العين والإنصات للإيقاعات لصدقها ووقعها على ذهن الجمهور فتارة هي قوية كما الارواح الغاضبة وأحيانا رقيقة كأنها شطحات الصوفيين، وسجلت الاغاني بصوت هيثم الحذيري فتكاتفت عناصر العوامل التقنية مع اداء الممثلين وجمالية النص المكتوب لملامسة ثقوب الروح التي تخلفها الحروب.
«ثقوب سوداء» المسرحية/الاغنية، عمل ينقد الحرب ويكشف قبح، عمل تصلك منه رائحة الدم العطنة وصور الاشلاء والأجساد الممزقة والجدران المتناثرة بسبب قسوة الحرب وظلمها، مسرحية كسابقاتها من اعمال عماد المي تنقد فكرة الحرب والدمار وتنشد الحب والحياة وما سعي «روحية» لاعادة تشييد قنطرة العشاق الا دليل على رغبة المخرج الدائمة في مدّ اواصر الحبّ والأمل لمقاومة واقع مسكون بطاقة من السواد.
مسرحية «ثقوب سوداء» لعماد المي ضمن تظاهرة «الخروج إلى المسرح»: المسرح صرخة ضدّ الجهل و ضدّ الموت
- بقلم مفيدة خليل
- 10:29 04/10/2022
- 1257 عدد المشاهدات
هو فنان وباحث ومؤطر يبحث عن الجديد في المسرح التونسي، منشغل الفكر لتقديم طرح فكري يرفض العنف والدمار وينادي بالأمل والحلم رغم قسوتهما