رمضان النور: أنظار في فلسفة الصيام (1)

وبعد فقد قضت سنة الله في كونه ونظامه أن يُبنى على التداول والتغاير، والتنوع والتمايز، فليس في الحياة والكون، ولا في الفكرة واللسان إلا ثنائيات؛

بها تتزايل المدركات تصورا وتصديقا: الوجود والعدم، الموت والحياة، الليل والنهار، السلب والإيجاب، الزيادة والنقصان، الذكر والأنثى، الخير والشر، المحن والمنح، الصحة والمرض، السراء والضراء، ومنها ما يعيشه العالم من شدة ووباء، يعقبه فرج ورخاء، وسواها من ثنائيات الوجود تقابلا وتداولا أذهلت النظر العقلي قديما وحديثا: "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء" القصص: 71، ويكفي للتأمل اثنان وثلاثون ظاهرة ثنائية متقابلة في سورة الرعد وحدها.

وعلى هذا النمط الفريد انبنى نظام الشعائر والتشريع؛ إذ كان جزءا من هذه المنظومة: التمايز سمته، والتنوع خاصته، والتقابل لب يسره وسعته، فاليوم رمضان ونفحاته، وغدا أفراح العيد ومسراته، وبعد غد مهرجان الحج وتجمعاته، وهكذا يتواتر التشريع تنوعا وانتظاما، كما تتابع الوجود تغايرا وإحكاما؛ حثا على الجد والتجديد، واستسعاء للنظر والاعتبار، وادراء للرتابة والملل، ودفعا للنمطية القاتلة في الحياة؛ ناهيك عن إدراك أسرار الشعائر، ومقاصد التعبد، فبضدها تتميز الأشياء.

إن العادة والوراثة، والبيئة والمجتمع، والمصالح الشخصية بمطامعها ومطامحها، وشواغل الحياة المتراكمة، قد تفسد نوازع الإنسان التلقائية إلى الخير، فتلقي أنواعا من الحجب والظلال على نور البصيرة والفطرة، حتى يستحيل اليقين الأخلاقي مرتعا للاحتمالات والتردد والمتاهات؛ لذلك كان التراتب في مواسم الخير، والتنوع في مناسبات الذكر والتعبد؛ إيقاظا للضمائر من سباتها، وإزالة للغشاوة عن النور المودع فيها: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" الذاريات:55

إن الجهد بالصيام أو بالصلاة أو بسواهما من الأعمال أداةٌ ضرورية لنفس خلوقة سامية، ومجتمع راق متحضر؛ إزاحةً للشر، وأداء للخير، وتشوفا للكمال، فالمدافعةُ شرطُ الإنسان لكسب الفضيلة، أو لحفظ الحياة، وذلك من معنى قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في كبد"البلد:4 وقوله سبحانه: "يــاأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملـقيه"الانشقاق:6 ، بيد أنه لا ينبغي تمجيد العمل بما هو وسيلةٌ دون النظر في أهدافه ومراميه، وإلا كان غريزة عمياء، أجوفَ لا قيمة له، فالعملُ المؤثر الفعال هو مقاومةُ قوة، أو قهرُ مقاومة، وذلك ما يبغيه الصيام من الأغراض الحميدة، والمقاصد العظيمة، وإلا كان ألماً بدنياً، وشقاءً جسديا لا معنى له، وذلك عينُ العبث المنافي لعموم قوله تعالى في الخلق والأمر: "وما ننزله إلا بقدر معلوم" الحجر:21.

إن صيام رمضان تدريب عظيم مفروض على الإرادة الإنسانية؛ كيما تخضعَ للإرادة الإلهية انتظاما وثباتا، من خلال تحطيم عبودية الجوارح وشهواتها، وترويض الأنفس ونزواتها، عبر مسارين حددهما علماءُ السلوك والأخلاق، وأشارت إليهما نصوص تربوية من مدرسة الصيام:
المسار الأول: مدافعةُ الشر وتقليلُه، وهو جهاد نفسي شاق دائب؛ حتى زعم بعض الفلاسفة أن الشر قانونُ الطبيعة الذي لا يرحم، في ترجمة لبيت زهير الجاهلي: «ومن لا يَظلم الناس يُظلم»، إشارةً إلى قوةِ نزغات النفس، وما تُزينه من الشهوات والشبهات: "إن النفس لأمارة بالسوء" يوسف:53 ، وإيماءً إلى تنوعِ ألاعيب الشيطان وحباله: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شـكرين" الأعراف:17، لكن الشريعة الغراء تطمئن الإنسان بحقيقة قاطعة: "إن كيد الشيطان كان ضعيفا" النساء:76، ثمّ تروض النفس بمواسم الخير ـ رمضان وغيره ـ حتى يقل شرها، ويسلس قيادها راضية مرضية، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنة":1894 : وقاية من النار، ووقاية للإنسان من أخيه الإنسان: يكف عنه شره، ويمسك أذاه، فيَزْوَرُّ عن الحسد والحقد، ويستنكف عن انتهاك الأنفس والأموال، ويأنف من الغيبة والكذب، والزور والبهتان، وبهذا تَطْهُر المجتمعات، وتختفي كثير من أمراضه المزمنة، وأوساخه المثبطة عن صلاح الفرد والمجتمع.

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115