إصدارات: «بحثا عن السعادة» لحسونة المصباحي: عندما يتقاطع عالـم الأدب مع العالـم الشخصي للكاتب

ليس من المعتاد أن يكتب كاتب تونسي وعربي عن علاقته بالكتب، فهو يعتبر تلك العلاقة مُؤسِّسة لمهنته ككاتب وهي علاقة حميمية بينه وبين عالم الأدب لا يرى جدوى من إطلاع القارئ عليها، فكأنه سيُدخله إلى مختبره أو إلى مطبخه الداخلي، في حين اعتاد أن يقدم له الطبخة جاهزة للإستهلاك.

حسونة المصباحي الروائي التونسي قرر أن يخرق هذه العادة في آخر

رواية له بعنوان «بحثا عن السعادة» ليحدثنا فيها عن «رحلته مع الكتب» على مدى ستين عاما وكيف غيّر الكتاب مصير حياته في كل مرة. هو البدوي المولود في قرية جرداء في ريف القيروان وجد نفسه كاتبا يجوب العالم وقد كانت كل المؤشرات في بيئته تُعدّه لأن يكون مزارعا أو راعيا للأغنام كأبناء قريته.
ومن هذه القرية تحديدا تبدأ الرواية، حيث يتذكر الكاتب سنوات طفولته الأولى ولقاءه بالكتاب الوحيد المتوفر في هذه القرية وهو القرآن، تحديدا في بيت عمه في «الصندوق الأخضر الكبير». هذا اللقاء كان بمثابة الإكتشاف المؤثر وأحدث وقعا كبيرا على حسونة الطفل ذي الخمس سنوات وحدد نظرته للحياة لمدة لا بأس بها من الزمن قبل أن يعرف ان هناك عالما آخر بأكمله خارج ما قرأه في القرآن وخارج الإعتقادات الدينية الضيقة والنظرة المنغلقة للحياة التي علّمه اياها أهل قريته.

اللقاء الحقيقي مع الأدب كان بعد ذلك، حين أهداه أحد أترابه كتابا لمصطفى لطفي المنفلوطي وهو «ماجدولين» ليتلقفه بشغف ويكتشف من خلاله وجود حياة أخرى مختلفة تماما عن حياة القرية الفقيرة الجرداء. من هنا يبدأ توقه إلى ترك موطنه الأصلي نحو آفاق أوسع وأرحب تغذي خياله وتشحذ موهبته.

وهكذا تنطلق رحلة الكاتب مع الكتب، كل كتاب يفتح أمامه عالما جديدا ويُوسّع نظرته للحياة ويبعده أكثر فأكثر عن عالمه القديم الضيق، فيربط علاقات صداقة حقيقية مع الكُتّاب الذين يقرأ لهم من أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وتولستوي وايمنغواي ودوستويفسكي وغيرهم ليتحولوا إلى عائلته الحقيقية، معهم يتحاور ويتقاسم همومه ويستعيد ايمانه وسعادته في أوقات الخيبات ويحلم ويُبدع. ولعل من أقوى المشاهد في الرواية، عندما يعود يوما إلى قريته التي اجتاحتها الفيضانات، وينفجر باكيا عندما يرى أن المياه أتلفت مكتبته ولا يفهم أهله ردة فعله، بل وتغضب أمه منه. فبينما يأسف الجميع هناك على بيوتهم التي دمرتها المياه أو ماشيتهم التي غرقت ويحاولون مواساة أنفسهم بالقبول بالقدر الجائر وتسليم أمرهم لله، ينتحب هو على مجرد كتب! لكنهم لا يعلمون أن الرجل فُجع في أعز ما عنده وأن كُتّاب تلك الكتب هم عائلته وأصدقاؤه الوحيدين وقد جرفتها المياه!

رحلة على المستويين الأدبي والشخصي
يتنقل حسونة المصباحي بين الكتب وبين الأزمنة التي كُتبت فيها ولكنه في نفس الوقت ينتقل بين الحقبات التاريخية التي ميّزت حياته، لتكون الرواية رحلة على المستويين الأدبي والشخصي يأخذ فيها القارئ إلى سياقات تاريخية وأدبية متنوعة. ونكتشف من خلالها العالم الأدبي لكل كاتب يتحدث عنه، حياته، سيرته الذاتية، علاقته بعائلته ومجتمعه وتأثير ذلك على انتاجه الأدبي، وأخيرا التقاطع الذي يحصل بينه وبين حياة حسونة المصباحي القارئ أولا والكاتب ثانيا. كل ذلك يتم بسلاسة كبيرة بحيث لا يشعر القارئ أنه مرّ من زمن إلى آخر أو من قصة كاتب معين إلى القصة الشخصية للمصباحي نفسه.
يستعرض حسونة المصباحي في هذه الرواية ثقافته الموسوعية ومعرفته بالكتاب المعاصرين والقدامى وبسيرهم الذاتية، معرفة قلّما تتوفر لدى كاتب عربي وتونسي. ويرحل بنا بين رموز الأدب الفرنسي والألماني والأمريكي والروسي وحتى الياباني، ويعطينا في نفس الوقت وجهة نظره حول هذا الاديب أو ذاك وتأثير البيئة والحقبة التي عاش فيها على تشكل تجربته الأدبية. فكأنه يقوم داخل الرواية بدراسة لكل أديب يذكره. وهنا تتداخل الأجناس الأدبية بين الرواية والتحليل والدراسة والمقال الصحفي.

العودة إلى الجذور
لا يُخفي حسونة المصباحي ميوله إلى كُتّاب على حساب آخرين ويبقى الكاتب الإيرلندي جيمس جويس أحبهم إلى قلبه لأنه علّمه كيف يعيد النظر في علاقته بقريته وكيف يرى أهلها بنظرة جديدة تلقي الضوء على انسانيتهم وآلامهم وصراعاتهم وأفراحهم وضعفهم وقوتهم ليصبحوا مصدر إلهامه والوقود الذي يغذي أدبه ورواياته. ويجد سعادته أخيرا في العودة إلى الجذور.

وبالفعل تنتهي الرواية حيث بدأت أي بالقرية وأهلها، حيث يعود الكاتب إليها بعد ترحال دام ستين سنة ليبني بها مستقرا له ومكتبة تجمع كل كتبه وكتب الكُتّاب الذين أحبهم وصادقهم على مر الزمان. مكتبة يريدها منارة للعلم والثقافة في ريف بقي يعيش الفراغ الفكري والثقافي نتيجة لسياسات الدولة الفاشلة في جعله ينهض ويتخلص من بقايا الفكر الخرافي المتزمت.
مشروع يريد به صاحبه أن يُشعّ من خلاله نور الثقافة والمعرفة على الذين أحبهم والذين نسيتهم الحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال.
• بحثا عن السعادة» لحسونة المصباحي، دار نقوش عربية 2017/ 283 ص/السعر 20 د.ت.

حنان زبيس

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115