تشعر بالشفقة لأجل تلك البنيّة المحجبة غصبا وتضحك من تفاهة «مغني الغاز» وبساطته وكيف اتخذ الاخونة فقط ليكون له معنى وهو عاشق الغناء، تستمتع بنقاش الطفلين و هما مختلفا الانتماء، تشعر ان الوطن كبير جدا و يستوعب كل الاختلافات، كبير قد يضيق احيانا ليصبح حد 8امتار او اقل هي سعة عربة «الترحيلات» التي دارت كل احداث الفيلم داخلها وصورت بكاميرا صغيرة في شكل ساعة جميع هذه الاحداث عايشها جمهور ايام قرطاج السينمائية مع الفيلم المصري «اشتباك» للمخرج محمد دياب.
تدور أحداث الفيلم بعد 30 جوان 2013 داخل عربة «ترحيلات» تابعة للشرطة مكتظة بالمتظاهرين من المؤيدين والمعارضين لحكم جماعة اﻹخوان المسلمين وذلك بعد خلع الرئيس محمد مرسي من الحكم، متضمنة لحظات من الجنون، العنف والرومانسية والكوميديا أيضًا، وعارضة لجزء كبير مما يحدث في مصر ، داخل العربة في الفيلم كوطن مصغر ينقل كل شرائح المجتمع، فيلم من بطولة نيلي كريم و طارق عبد العزيز و هاني عادل وثلة من الممثلين جسدوا حالة مصر بعد خلع مرسي.
الوطن الاصغر والأكبر..ان اختلفت مع احدهم فعد الى الانسان داخلك
اشتباك فيلم مصري للمخرج محمد دياب وكتب النص صحبة شقيقه خالد دياب تمثيل نيلي كريم و طارق عبد العزيز و هاني عادل و احمد داش واحمد مالك وعمرو قاضي ، ساعة ونصف عايش فيها المتفرج احداث 30 جوان 2013 بعد خلع مرسي، ساعة ونصف عايش فيها لحظات الخوف من عودة الاخوان، خوف من عنفهم، عايش فيها ايضا صدق المصريين حين ينزعون جبة الانتماء الديني والسياسي ويكونون مواطنين دون خلفيات او انتماءات.
تنطلق احداث الفيلم حين يعرف احد العساكر ان الصحفي يلتقط بعض الصور، تفتك منه الكاميرا ويزج به داخل عربة الترحيلات الخاصة بالشر طة، يستعمل مصطفى «هاني عادل» الصحفي المصري الامريكي كاميرا صغيرة ليوثّق بعض ا لصور داخل العربة، تتحرك عربة الترحيلات ويحاول صحفيان طلب النجدة من متظاهرين يساندون الثورة ويصرخون لحرية مصر ، ينتبه المتظاهرون لوجود صحفيين يريدان شتمهم لاعتقادهما أن هؤلاء المتظاهرين من «الاخوان» ولما يعرفون انهما صحفيان يضربونهم بالطوب ممّا يجبر الشرطة على الزج بهم أيضا داخل العربة، الى حدّ أن تصبح الاحداث عادية وتتصاعد احداث الفيلم حين ت صل العربة الى احدى المناطق ويسمعون هتاف «اسلامية؟، اسلامية» و «القصاص بالرصاص» ، داخل العربة يتحركون و يهتفون باسم الثورة وفجاة يفتح باب العربة ويزج بثمانية انفار اخرين من مناصري الأخوان داخل نفس العربة لتتصاعد احداث الفيلم وتنقل الثورة والمظاهرات وصراع الثوار والإخوان داخل الثمانية امتار.
منذ دخول مناصري الاخوان الى العربة تتغير الأحداث يحدث تشابك اولا فترشهم الشرطة بالمياه الساخنة، ثم يتنظم الاخوان و يختارون احدهم مفاوضا باسمهم وناطقا باسم الكل هو صاحب القرار، اما الاخرين فلكل رايه، يقتسمون العربة ايضا والكاميرا المصغرة توثق لما يحدث في الخارج، صور التحطيم و القتل والدم الذي يسيل، مناصري مرسي والاخوان واعتداءاتهم على الشرطة ومتظاهرين اخرين، كلها احداث في الخارج تنعكس على الداخل.
داخل عربة الترحيلات تدور احداث فيلم اشتباك، كل الاشخاص يوضعون تحت ضغط الخوف والظلم ولكل شخصية تعقيداتها وخلفيات وأحكام مسبقة تعيش بها منها رفض احد الاخوان ان تلمس جرحه المرأة الممرضة «نجوى» (نيلي عبد الكريم) بقوله «اللمس حرام».
في فيلم «اشتباك» ستجد حتما تعايشا بين من وضعوا داخل عربة الترحيلات تلك بمحتوياتها البشرية وحالاتها الميكانيكية السيئة، عربة هي انومذج مصغر عن مصر والاختلاف الذي يعيشه اهلها، كل ماحدث داخل العربة من خصام، اختلاف، اتفاق «بلطجة» حب، خوف الأم على ابنها، محاولة الاب البحث عن ابنه في العربة المجاورة، تمسك الفتاة بحجابها وتريد من الكل ان يخاطبها «الاخت عائشة» وليس «عيشة»، كلها رمز لمصر بما تحمله في داخلها من أنواع وحالات من البشر ونجد أن هذا الخليط الإنساني يجمع بينهم شيء مشترك وهو أن الإنسان الواحد من الممكن أن يكون طاغية وأن يكون ضحية ومظلوما في نفس الوقت.
في اشتباك حديث عن ثنائية الجلاد والضحية، في الفيلم ترى ان الكل ظالم، والكل ضحية، الشرطة تظلم الشعب و الاخوان يظلمون رجال الشرطة، القوي يظلم الضعيف، والضعيف يسلط ظلمه على من هو أضعف عربة الترحيلات كانت صندوق الاحداث جمعت افراد من الشرطة والضابط القبطي البسيط «عويس» وابن الحي الراقي وذاك المتشرد الذي سكن الشارع وابن الحي الفقير، صاحب محل اصلاح الهواتف الجوالة والمغني الحالم ان يكون نجم، والممرضة والعامل ، من حلم ان يغني ولكن انتماءه الديني يمنعه، الصحفي العائد من امريكا والصحفي ابن البلد جميعهم وجدوا في مكان واحد اختلفوا وتباينوا و لكن في لحظات الخوف عادوا الى معدنهم الاول الإنسان واشتركوا في الدفاع عن حقهم في الحياة، صور قاتمة وموسيقى موجعة ولحظات صادقة مبكية حينا ومثيرة للشفة حينا اخر كلها نقلت جزء من الواقع بطريقة فنية مميزة وفكرة استثنائية.
ساعة ونصف من الشفقة والغضب ، ساعة ونصف بدى فيها المخرج محايدا ولكن الكاميرا انحازت الى من احبوا مصر على حساب من احبوا مرسي، ففي جزئيات بسيطة نقل المخرج ان انصار الوطن اصدق من انصار مرسي، فأنصار الوطن حاولوا اسعاف الاخواني بينهم وقدموا لباسا للعسكري حتى لا يكتشف المتظاهرون أمره وتدخلوا اكثر من مرة لإخراج تلك الفتاة من العربة وان كانت اخوانية، وانقذوا عسكريا من الموت لما كشفوا مكان من يطلق النار، جزئيات ربما تبدو بسيطة للمشاهد ولكنها كشفت ان كاميرا المخرج مع الانسان اولا ومع الوطن ثانيا.
المرأة في الثورة المصرية فاعل لا مفعول به
بهاجس الامومة اختارت ان تكون داخل عربة الترحيلات مع زوجها و ابنها لحماية صغيرها، وبحسّ الممرضة الانسانة حاولت ا ن تعالج الاخواني المصاب وان اختلف معها، وبحس المرأة حاولت البحث عن حل للازمة الصحية للفتاة الاخوانية الموجودة داخل العربة، هي المرأة الوحيدة في عربة الترحيلات واختارت ذاك عن طواعية، امرأة قوية الشخصية، لم تخف من رجال الشرطة ونزلت الى الساحات العامة وتظاهرت صحبة ابنها من اجل وطن أفضل نظراتها حادّة، فرضت كلمتها وحضورها وسط العديد من الرجال، بطريقة خاصة استقطبت الفتاة الاخوانية الغاضبة وجعلت الجميع في صفها، هي المرأة المصرية والمواطنة الغيورة على وطنها تريد مناداة الفتاة بـ«عيشة» لان «لا شغل لي مع نظام قريش تبعكم» كما قالت، ممرضة لم تهب اللحظة ولا سوء الموقف لتسعف المجروحين داخل عربة
الترحيلات، الفنانة نلي كريم في دور الممرضة «نجوى» دور لامرأة اختارت الوطن نزلت الى الشارع للتظاهر ضد حسني مبارك ولما صعد الاخوان الى الحكم اصبح نزولها نادر بسبب عنف التعامل مع المتظاهرين.
عن دورها قالت نلي عبد الكريم في موقع اليوم السابع «دور نجوى جد مختلف، امرأة وسط الكثير من الرجال يدل على أهمية المرأة في المجتمع، دور يؤكد حضور المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية وهو يمثل المرأة المصرية المواطنة والام والمهنية تلك التي اختارت الوطن وحاولت ان تجسده في احلامها الصغرى».
في اشتباك نقلت كاميرا المخرج صورة ايجابية عن المرأة المصرية، تلك الشهمة التي وقفت الى صف الرجال ونادت هي الاخرى بالحرية، لم تخف الاخوان وارهابهم ونادت لأجل الوطن وحلمت بوطن اجمل.
نهاية الفيلم كانت جد موجعة، نهاية وحشية ترك معها المخرج للمتفرج وضع نهايات الشخصيات، فبعد ان ظن المحتجزون أن السيارة تتحرك في اتجاه منطقة الامن اتضح ان احد الاخوان هو من اختطفها لفك اسر اخوته ولكنهم عجزوا عن فتح الباب فيطلب منه احد الركاب ان ينطلق بسيارة الترحيلات الى مظاهرة الاخوان وقال ان البقية سيكونون في حمايتهم، ولكن من يستطيع السيطرة على اخواني متشدد يرى في الاخر كافرا وجب قتله، ومن له القدرة على السيطرة على متظاهر يرى في الاخوان خونة وجب قتله وكانهم يلعبون لعبة «العسكر والاخوان.
وبمجرد ان تصل السيارة الى المظاهرة ويسمع الكل كلمة «اسلامية، اسلامية» و «تسلم الايادي» تصبح الصورة مضببة وتتحرك بطريقة تقلق العين وكانها نقل لمخاوف داخلية ولصورة تمزيق بشرية موجعة ومقيتة فكل من في السيارة مصيره مجهول ربما يقتل او يذبح واصعب الاحتمالات بقاؤه على قيد الحياة، نهاية مفتوحة صحبتها موسيقى حزينة وكانها حزن داخلي على تشتت سكن شعب كان ذات يوم يهتف صوتا واحدا للحرية، في النهاية لا يعرف المشاهد أي الطرفين رست عنده جريمة القتل فالبشاعة مشتركة وكان المخرج يريد ان يوقظ الضمائر المسيتة علها تنهض لمصلحة الوطن وتتجاوز تلك العبثية في الدفاع عن الحزب والانتماءات السياسية.
«اشتباك» فيلم يدك الروح ويجعلك تتساءل آلاف المرات بينك ، لم نكره بعضنا؟ لماذا نتناحر ونتشاجر واصحاب الكراسي في مناصبهم؟ لماذا نقتل بعضنا ومرسي والسيسي في قصورهم ونحن في الساحات العمومية نذبح بعضنا البعض؟ لماذا يفكر الاخوان فقط بانفسهم ويبحثون طيلة الفيلم عن القصاص وكيف يخرجون من وسط العربة دون اهتمام بالاخرين؟ ان كنا جميعنا نحمل الجنسية نفسها؟ ونتحدث اللهجة عينها؟ وناكل الطعام نفسه؟ ونتجول في المناطق ذاتها لماذا كل تلك البغضاء؟ لمذا ينعت المصريون بعضهم بالخيانة؟ ومن هو الخائن؟ اهو المنحاز لمصر؟ ام المنحاز لمرسي؟ ولماذا لا يكون الكل في لحظة صفاء كتلك التي وثقتها الكاميرا حين غنى احدههم وتفاعل الكل متناسين انتماءاتهم السياسية؟ والى متى ستظل السياسة نقطة فرقة بين ابناء الوطن الواحد؟ اسئلة كثيرة تطرحها وانت تشاهد فيلم «اشتباك» لانه فيلم انساني بامتياز، فيلم ابدع فيه المخرج والممثلون ومن قام بالمونتاج والتصوير، فيلم هو ايقونة انسانية وابداعية.
هوامش:
• اشتباك في عرضه الاول في الكوليزي كانت القاعة جد مكتظة وكذلك في عرضه الثاني في قاعة «ا،ب، س»، فيلم اعجب الجمهور التونسي وبعضهم اعاده للمرة الثانية متاثرين باستثنائية الفكرة وجودتها.
• بعد الفيلم وتأثرا بالاحداث اغلب الجمهور قال «الحمد لله محلانا التوانسة، ماعندناش رصاص وقصاص وحتى سلفيينا ليسوا بعنيفين كالذين شاهدناهم في الفيلم، ما احلانا التوانسة».
• شارع الحبيب بورقيبة من التاسعة صباحا حتى ساعة متأخرة من الليل والفرق الموسيقية تعزف في الشارع والجماهير مجودة بأعداد غفيرة صورة مميزة خاصة والكل يلتقط صورا الى جانب التانيت و»محلاها تونس في JCC».
• نيلي كريم حين سُئلت عن الفيلم أجابت «أعتقد أن الفيلم قبل أن يكون سياسيا مثلما يراه البعض هو إنسانى واجتماعى أيضا، فكثير من المواقف التى تحدث داخل سيارة الترحيلات، تكشف الغطاء عن كثيرين، فنرى أشخاصا يطلق عليهم «الإخوان» مازالوا يعيشون فى تخلف، مثل الرجل الذى يرفض أن أعالجه رغم نزيفه المستمر لطبيعة عملى كـ «ممرضة» لمجرد أنى «ست»، وهذا يؤكد الظلام الذى تعيش فيه فئة من المجتمع، وفئة أخرى تنغمس فى البلطجة وتنظر للمجتمع بطريقة أخرى ومختلفة تماما، فهناك تفاصيل كثيرة هامة، كان لا بد من تركيز الضوء عليها، وفى النهاية من الصعب جدا أن تقول إن الفيلم مع فئة أو ضد حد، هو مع الصح»
• تأكد أن كل المؤمنين بقيم الحرية والإبداع وراءك وتيقن بأنك صنعت فيلما عظيما.. يجب أن نحني رؤوسنا احتراما لإبداعك وفريق عملك هذا نص رسالة توجه بها المخرج خالد صالح الى محمد دياب مخرج فيلم اشتباك.
• يرى محمد دياب أنه فكر في صنع فيلم إبان ثورة 2011، لكن قصة «اشتباك» كانت الأفضل «للحديث عن مصر 2013» وأيضا مصر اليوم، لأن القوى المتواجدة على الساحة والمتنازعة هي نفسها «الثوريون والإخوان المسلمين والجيش». ويضيف «إنها لسخرية أن الموضوع الوحيد حول الثورة الذي تمكنا من إيجاده هو فشلها» كما صرّح أثناء عرض الفيلم في «كان» الفرنسية.