مسرحية "رار" إخراج عز الدين بشير الممثل والفكرة والركح ثلاثية مقدسة للاحتجاج

كيف ينتهي الانسان؟ هل حين يفنى الجسد ام حين تموت الفكرة؟

وأيهما اشد قوة؟ الفكرة ام الجسد؟ هل يمكن ان نعيش دون فكرة؟ هل يستمر نسل البشرية دون عقل؟ هل بإمكاننا ان نكون أجساد برؤوس خاوية فقط تستهلك السذاجة وتعيد تدويرها وتمريرها الى الاجيال الاخرى؟ وكيف نقبل المختلف عنّا فكريا؟ هل نشجعه لتصبح الفكرة نبراسا للديمقراطية ام نتكاتف عليه لاطفاء روحه وفكرته؟ هل نعيش بمقولة ديكارت "انا افكر اذ انا موجود" ام بفكرة ميشال فوكو عن موت الانسان العاقل؟ كل هذه الاسئلة تتولّد في مسرحية "رار" اخراج عز الدين بشير..

المسرحية فكرة عن نص أصلي لعصام الطبابي ودراماتورجيا جماعية، تمثيل كل من عواطف عبيدي واصالة النجار ورحاب المبروكي وفتحي بوسنينة وأسامة الحنائني ومحمد بوزيد وعبد القادر الكوكي وتصميم اضاءة رشاد باللحم وموسيقى قيس شقير وتصميم ملابس ازناكاث المهذبي وكوريغرافيا قيس بولعراس وتصوير فيديو سيف الدين بن ستيلا وانتاج شركة عشتارت 2025.

المسرح تمرين على السؤال وانتصار للحرية

المسرح فعل احتجاجي وتعبيرة متمردة على الموجود، الخشبة مساحة للبوح بالأفكار المختلفة ونقد الواقع السياسي والثقافي ووضع الاصبع على داء الوطن تحديدا الأنانية وغياب الفكرة، على فكرة جدلية الغياب والحضور والدفاع عن مطلبية الاحتجاج ومحاولة تكسير جدران المراقبة السياسية على الفكرة قامت مسرحية "رار"، عمل احتجاجي ثائر، منذ المشهد الاول وفكرة الصراع تتصعد تدريجا حدّ ان تصل الذروة وتطرح للسؤال الابرز "متى ينتهي الانسان؟"، هل بغياب الجسد ام الفكرة؟.
المسرحية كما دورة الحياة تنتهي بمشهد البداية، مجموعة من البشر يلبسون اقنعة تخفي عيونهم ويرقصون في احتفالية مميزة، خطوات متناسقة وحركات جسد متواترة مع صيحات الفرحة بتحقيق انتصار ما؟ منذ البداية يدخل المخرج الجمهور في خانة السؤال؟ عن اسباب الاحتفال الذي سيتحوّل فجاة الى صراع بين الجميع.
"رار" هو اسم المسرحية، في النص اسم علم لشخص ما، استاذ محاضر وصاحب أفكار ثورية متنصرة للفكر ورافضة لكل اشكال الخنوع، يمكن ان تقرئ الكلمة بالفرنسية rare بمفهوم الندرة ومن المعنى الاصلاحي للكلمتين الفرنسية والعربية أخذت الشخصية ملامحها، فهي بالفعل نادرة، "رار" الشخصية الغائبة الحاضرة، غائبة على الخشبة وحاضرة في كل أحداث المسرحية، بل غيابها القادح الأصلي للحكاية والصراع، "رار" الاستاذ الذي يختار الغياب عن المنظمة قبل ثلاثة ايام من انعقاد المؤتمر ويترك لرفاقه قنبلة يجب البحث عنها واسمها "كتاب نهاية الانسان".
يبدئ الصراع بين أعضاء المنظمة عمن سيكون في القيادة؟ وما فحوى الكتاب؟ وتنطلق الهرسلة السياسية والأمنية لكل انصار "رار" خاصة من الطلبة، خلاف يحيل على الصراع الابدي بين النور والظلمة ولذلك اختار المخرج لممثليه اللونين الابيض والاسود في احالة الى الثنائية الابدية بين الحضور والغياب، الحياة والموت، غياب "رار" و ما خلّفه من فجوة كشفت حقيقة التنظيم، كشفت زيف الشعارات، وبينت الهوّة بين ما يقوله السياسيين وما يفعلونه عادة.
فالمسرح فعل ثوري "المسرح ومنذ نشأته، ارتبط بالبعد النقدي، مستمدًا شرعيته من الراهن. اذ لا يقدم الواقع كما هو، بل يستدعي ضمنه مساحات فكرية نقدية تتيح للفرد استكشاف ذاته وقضايا عصره ورهاناته لصبح أداة سياسية وفكرية، تخلق حالة من التجادل اللحظي تتجاوز التشخيص لتدعو إلى الفعل. تدريب فكري على النقد والتحليل، تعزيز لقدرة المشاهد على إدراك واقعه بكل تناقضاته وتعقيداته، تأكيدًا لقول أوغست بوال: “المسرح تمرين على الحرية.” فالمسرح و مهما كان طابعه رمزيا سياسيا، يفتح أفقًا للتفكير خارج الحدود، يسلك بنا دروبا نحو ملامسة نقاط تنمي فينا غريزة التعبير، حيث للمبدع حرية الفكرة وللجمهور حرية التأويل و التفاعل" حسب تصريح المخرج الشاب محمد عز الدين بشير للمغرب.

"رار" يؤكد دوما ان الفكرة لا تموت وقت الظلمة، ولكن رفاقه يعملون العكس فهم يتناحرون لتحقيق مصلحة ذاتية وضيقة، اغلب الاحداث المسرحية تدور في الجامعة ارحب فضاءات العلم والحرية ولكنه يتحول الى بؤرة للظلم، لرفض الاحتجاج ومحاولة خنق العقول المفكرة، في المسرحية يكون "رار" كما القديس او النبيّ يحاول ان يدافع بالكتابة عن حرية العقل البشري ويحذر من "شيطنة التفكير الحر" هذه الجملة التي سيقوم عليها الصراع بين الطلبة والاساتذة، صراع بين مناصري الفكر الحر والحرية والمدافعين عن الديكتاتورية متجسدة في سيطرة الاستاذ الواحد صاحب الراي الاوحد، ليدعو العمل الى التمرد على القوالب الفكرية الجاهزة والمضي دائما في سبل الحرية.

الممثل قنبلة قابلة للاشتعال كلما كانت الفكرة ثائرة

جسد الممثل حمال معاني المسرحية وشيفراتها، اختزلت أجسادهم وطريقة اللعب العديد من المعاني، في مسرحية "رار" عوّل المخرج على ثلة من امهر الممثلين الشباب، تقاسموا الشغف بالتمثيل والانتصار الكلي للشخصية واستنطاقها فكريا وجسديا وقيميا لتكون واضحة ومميزة، لكل ممثل في العمل طريقته المختلفة في التناص مع شخصيته وتقديم دور جديد يختلف عن الأدوار السابقة.
في المسرحية الممثل نقطة قوة العمل وركيزته الاساسية، ممثلين تحمّلوا وزر المسرح ودخلوا محرابه المقدس دون خوف، والمشاهد الثنائية بين الممثلين كشفت مدى جديتهم في التعامل مع نص لاذع ومشروع مسرحي احتجاجي، اللقاءات الثنائية بين فتحي بوسنية بشخصية "توتو" الانتهازية واصالة النجار شخصية "صفاء" المؤمنة بالفساد حد القناعة، والمشاهد بين عواطف العبيدي "زهور" الاستاذة مدعية النزاهة واسامة الحنايني "صبري" الثوري القديم والحوارات الثنائية بين محمد بوزيد "نبيل" الطالب المتردد بين الواجب النقابي والمسؤولية الاجتماعية ورحاب المبروكي "ايمان" الثورية الرافضة لكل اشكال الخنوع، جميعها جزئيات من لوحة متكاملة اسمها ابداع الممثل في تحمّل المشروع والدفاع عن الفكرة.
في المسرحية إسقاطات كثيرة عما تعيشه تونس، ففضاء الأحداث يتشابه مع فضاءات حقيقية خاصة الصراع بين الحركات الطلابية والأنظمة السياسية عبر السنين، محاولة للاقتراب من الطلبة وتسليط الضوء على أحلامهم ومواقفهم السياسية والنقابية والإنصات لرغبتهم في الاحتجاج فقط لاجل الانسان، في المقابل الة سلطوية قمعية تعتمد كل الأساليب لقتل الانسان المفكر واجهاض الفكرة قبل ولادتها وهو ما تجسد في تناحر بين الطالبة "ايمان" و"توتو" الاستاذ ممثل المنظومة الديكتاتورية.
وظف المخرج السينوغرافيا لإيصال رسائل العمل، فكانت الملابس بالأبيض والأسود في إشارة مباشرة الى فكرة الصراع بين طرفين، واعتمد الإضاءة لتقسم الركح جزئين، لكل جزء عوالمه الخاصة، جزء يمثل المنظومة والآخر يمثل الطلبة والشعب، والاختلاف بينهما هو محور صراع الفكرة والجهل، كما خدمت الموسيقى أحداث الحكاية وكانت نصيرا لأداء الممثل في ايصال الملامح العامة لمسرحية رار الداعية اساسا لاستعمال العقل وعدم استسهال الفكرة اذ يخلق المسرح فضاءً عموميًا جماعيًا للإنتاج الفكري والجمالي، ليخضع الملكة النقدية للفرد تحت مجهر المساءلة، يعلمنا المسرح الإصغاء للآخر، ويستدعي منا التفاعل الواعي مع ما يُقدَّم على الركح، إذ لا يكتفي الفرد بمجرد استهلاك المادة المطروحة، بل يخضعها لتجربة تتجاوز حدود “الآن” و”هنا”، لتفكيكها، وتحليلها، ومساءلتها. ضمن مسار تتشكل فيه لحظة مشتركة بين المادة المطروحة والجمهور، ويتحوّل الركح إلى فضاء رمزي عمومي لممارسة النقد والحوار كما عبّر المخرج.
"رار" نص يشاكس المنظومة ويطرح السؤال عن نهاية الانسان؟ فالانسان يطغى فيعمى فينتهي ويكتب نهايته الرديئة بيديه دوما، العمل صرخة ضدّ الصمت وتمرّد واع على الموت الرمزي لانسانية الانسان.

 

 

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115