حيث تقدمت ب 27 مرتبة في التصنيف الدولي لمؤشر التحول الطاقي، الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي، في سياق عالمي يتّجه بخطى متسارعة نحو الانتقال إلى طاقة نظيفة ومستدامة.
فهل تقترب تونس من تحقيق تحولها الطاقي؟ وما الذي جعل تونس تتقدم 27 مرتبة دفعة واحدة في تصنيف عالمي لأداء الدول في التحول الطاقي؟
هل يعني هذا أن البلاد تسير فعلًا على درب الاستقلال الطاقي والتنمية المستدامة وبأي ثمن ؟
أم أن هذا التحسن يبقى نسبيًا، تعيقه عراقيل الحوكمة وضعف الاستثمار والبطء في الإنجاز؟
وأين تقف تونس اليوم مقارنة بجيرانها وشركائها الأفارقة والعرب في هذا السباق نحو مستقبل طاقي أنظف وأكثر عدالة؟
أسئلة مشروعة تطرحها نتائج "مؤشر التحول الطاقي 2025" الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، والتي أظهرت صعود تونس من المرتبة 89 إلى المرتبة 62 عالميًا من بين 118 دولة، وهو ما يمثل إحدى أكبر القفزات في تصنيف هذا العام.
فهل يكون هذا التحسن منطلقًا لتحول استراتيجي حقيقي في السياسة الطاقية التونسية؟
تحسّن أداء النظام الطاقي
يعكس هذا التقدم، الذي وضع البلاد في المرتبة 62 من بين 118 دولة، إدراكًا متناميًا لدى صناع القرار في تونس بأهمية تقليص التبعية الطاقية، وتثبيت دعائم سياسات طاقية أكثر عدالة ونجاعة واستدامة، ومع تحقيق تونس لمجموع نقاط بلغ 54.6 نقطة واحتلالها المرتبة الثانية على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يبرز هذا التقييم الدولي كمؤشر نوعي على تحسّن أداء النظام الطاقي الوطني، رغم التحديات الهيكلية والتمويلية التي ما تزال تعيق التحول المنشود.
ورغم أن هذا التقدم لا يعكس بعد تحولًا بنيويًا شاملاً، إلا أنه يكرّس بداية ديناميكية يمكن أن تفتح آفاقًا أوسع للسيادة الطاقية، خاصة إذا ما تم تعزيزها بإصلاحات عميقة وشراكات استراتيجية فعالة.
واقع مُعقّد وآفاق واعدة
رغم محدودية مواردها الطبيعية، تشكّل الطاقة أحد أبرز التحديات الاقتصادية والاستراتيجية في تونس. فالبنية التحتية ما زالت تعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفوري، في حين أن نسبة إنتاج الطاقة من مصادر متجددة لم تتجاوز بعد عتبة 7% من إجمالي الإنتاج، رغم وفرة الإمكانيات الشمسية والريحية.
لكن السنوات الأخيرة شهدت انطلاقة محتشمة نحو إصلاح المنظومة الطاقية، مدفوعة بارتفاع أسعار المحروقات عالميًا وضغوط التزامات تونس البيئية. ورغم أن الدولة أطلقت عدة مشاريع للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، خاصة في تطاوين وقفصة والكاف، بدعم من شركاء دوليين مثل الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، إلا أن هذا المسار يواجه عقبات حقيقية، من أبرزها
ضعف الإطار التشريعي والتأخر في إصدار النصوص التطبيقية.
وطول آجال الإنجاز، بسبب تعقيدات إدارية ومقاومة شبكات المصالح بالاضافة الى نقص التمويلات الموجهة للابتكار والبحث في مجال الطاقات النظيفة.
تجارب مقارنة
اذا فتحنا باب المقارنة في هذه النجاحات يكفي ان نذكر المثال المغربي الذي يُعد من التجارب الرائدة إقليميًا، حيث تجاوزت مساهمة الطاقات المتجددة 37% من الإنتاج، بفضل استراتيجية طويلة الأمد اعتمدت على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، واستثمرت في مشاريع ضخمة كـ"نور ورزازات".
أما على الصعيد الأوروبي، فإن الدنمارك تعد نموذجًا عالميًا، إذ بلغت نسبة إنتاجها من الطاقات المتجددة أكثر من 75%، بفضل السياسات التحفيزية والحوكمة الرشيدة وتطوير البحث العلمي.
وفي إفريقيا، تظهر نيجيريا كحالة متقدمة في التحول، إذ جاءت في المرتبة 61 عالميًا متقدمة على تونس، رغم تحدياتها الديمغرافية والأمنية، بفضل تركيزها على اللامركزية الطاقية واستخدام تقنيات حديثة في توليد الطاقة خارج الشبكة (off-grid solutions).
عوائق التحول الطاقي في تونس
رغم ما أحرزته تونس من تقدم في مؤشرات التحول الطاقي، لا تزال البلاد تواجه مجموعة من العوائق البنيوية والمؤسساتية التي تعيق تحقيق تحول فعلي ومستدام نحو الطاقات المتجددة، فالمنظومة الطاقية في تونس تعاني منذ سنوات من هشاشة حوكمة القطاع، في ظل تعدّد المتدخلين وغياب التنسيق الاستراتيجي بينهم، إلى جانب بطء تطبيق الإصلاحات القانونية، وهو ما من شانه ان يخلق حالة من عدم اليقين لدى المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين.
ومن أبرز العوامل المُعيقة كذلك نقص التمويلات، إذ لا تتجاوز الاستثمارات العمومية والخاصة في هذا المجال الحدّ الأدنى المطلوب لإنشاء بنية تحتية قوية. فغياب الحوافز الجبائية والمالية، وضعف انخراط البنوك في تمويل المشاريع الطاقية، يحدّ من تطور السوق. هذا دون أن نغفل عن التبعية المفرطة للطاقات التقليدية، في ظل تراجع الإنتاج المحلي وارتفاع كلفة التوريد.
كما تفتقر البلاد إلى شبكة كهرباء مرنة ومهيأة لاستيعاب الطاقات المتجددة وتوزيعها بكفاءة، فضلاً عن ضعف في البحث العلمي والتكوين، ما يحدّ من تطوير حلول مبتكرة محلية الصنع، ويجعل تونس تعتمد على التكنولوجيا المستوردة في معظم المشاريع.
وتتجلى كذلك الفجوة في العدالة الطاقية، إذ تظل بعض المناطق الداخلية محرومة من مشاريع الطاقة، في حين تتركّز الاستثمارات الكبرى في الجنوب دون تكامل اقتصادي واجتماعي واضح مع محيطها.
وعلى خلاف هذا الوضع، تمكنت دول مثل المغرب والأردن والسنغال من كسر هذه القيود عبر تحرير السوق الطاقية، وإرساء شراكات فعالة بين القطاعين العام والخاص، وتوفير حوافز ملموسة للمستثمرين، إضافة إلى تبسيط المسارات الإدارية وتوجيه دعم حقيقي للابتكار المحلي.
من العوائق إلى الحلول
لتحقيق تحول طاقي فعلي ومستدام، لم يعد أمام تونس خيار سوى الانتقال من المقاربة التدرجية إلى استراتيجية أكثر جرأة وشمولًا، تجمع بين الإصلاح التشريعي العميق والتخطيط بعيد المدى، مع تفعيل الشراكات متعددة الأطراف. ويتطلب هذا المسار، أولًا، تحسين الحوكمة عبر توحيد الرؤية الوطنية للطاقة وتطوير الإطار التنظيمي بشكل يضمن الشفافية والنجاعة في اتخاذ القرار. كما يجب إعادة هيكلة المؤسسات المعنية لتكون أكثر تنسيقًا وتفاعلاً مع القطاع الخاص والمجتمع المدني.
في جانب التمويل، من الضروري خلق بيئة استثمارية محفزة، تتضمن آليات تمويل مرنة، وضمانات سيادية للمشاريع الكبرى، وتشجيع البنوك على دخول سوق الطاقات النظيفة بآليات تمويل ميسّرة، خاصة لفائدة الشباب والمبادرات الجهوية.
أما في ما يتعلق بالبنية التحتية، فإن تحديث شبكة الكهرباء الوطنية ورفع قدرتها على استيعاب الإنتاج المتجدد، يُعد أولوية مطلقة، إلى جانب الاستثمار في التخزين الذكي والرقمنة.
ولا يمكن تحقيق أي تحول حقيقي دون بناء القدرات البشرية، وهو ما يستدعي إدماج تخصصات الطاقات المتجددة في الجامعات والمعاهد التقنية، وتحفيز البحث العلمي التطبيقي الموجّه نحو السوق. كما يتوجب على الدولة أن تضمن أن يكون هذا التحول عادلاً وشاملاً، من خلال إدماج المناطق الداخلية والطبقات الهشة ضمن خطط التنمية الطاقية، بما يُعزز العدالة الاجتماعية.
أخيرًا، فإن تونس، بما تملكه من موقع جغرافي استراتيجي وقدرات شمسية وطاقة رياح هائلة، قادرة على التحول إلى قطب إقليمي للطاقة النظيفة، خاصة إذا ما أحسنت استثمار شراكاتها الأوروبية والإفريقية، وعملت على تسويق فائضها الطاقي في المستقبل ضمن مشاريع الربط الكهربائي العابر للحدود.
يمثل صعود تونس في مؤشر التحول الطاقي فرصة ثمينة يجب عدم التفريط فيها، لكنه في الوقت ذاته مؤشر تحذيري فالوصول إلى قمة النجاح الطاقي والحفاظ على هذه الديناميكية يستوجب إصلاحات جذرية في الحوكمة، ودعمًا فعليًا للبحث والتجديد، وتحريرًا ذكيًا للسوق الطاقية.
فالتحول الطاقي ليس مجرد ترتيب في مؤشر دولي، بل هو مسار اقتصادي ومجتمعي شامل، رهانه الأساسي ضمان السيادة الطاقية، وحماية البيئة، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الجهات والفئات.