هذه الكمية الهائلة لا تعبّر فقط عن نمط استهلاك مفرط، بل عن نظام اقتصادي يُنتج الهدر بنفس وتيرة إنتاج السلع.
وسط هذا المشهد الكارثي، يبرز الاقتصاد الدائري كحل استراتيجي، لا فقط لإنقاذ الكوكب، بل لإعادة هيكلة الاقتصاد على أسس الاستدامة والفعالية.
فهل يمكن لتونس، التي تُهدر آلاف الأطنان من المواد القابلة للتثمين سنويًا، أن تلتحق بركب هذه الثورة الاقتصادية؟ وهل لدينا الإرادة السياسية والمجتمعية للانتقال من عقلية التخلص إلى ثقافة التثمين؟ وماذا نخسر حين نرمي، وماذا نكسب حين نُعيد التوظيف؟
في عصرٍ لم تعد فيه الموارد الطبيعية بلا حدود، ولم يعد التلوّث مجرد أثر جانبي للنمو، يبرز الاقتصاد الدائري كنموذج لا يعيد فقط تدوير المواد، بل يعيد التفكير في الاقتصاد برمّته. وبينما تمضي دول متقدمة بخطى ثابتة نحو اعتماد هذا النموذج، تظل تونس في مرحلة الأسئلة الجوهرية وهل نحن مستعدّون فعلاً للانتقال من اقتصاد الاستهلاك والهدر إلى اقتصاد إعادة التوظيف والتثمين؟ ومن أين نبدأ؟
النفايات المنزلية
تنتج تونس سنويًا نحو 2.7 مليون طن من النفايات المنزلية، يُعاد تدوير أقل من 5% منها و لا يعود هذا الرقم فقط إلى ضعف البنية التحتية أو غياب ثقافة الفرز، بل يُمثّل مرآةً لنمط اقتصادي خطي، فنحن نُنتج، نستهلك، ثم نرمي. هذا النموذج، الذي كان مقبولًا في القرنين التاسع عشر والعشرين، أصبح غير قابل للاستمرار في القرن الحادي والعشرين وما بعده حيث الضغط على الموارد والبيئة يتجاوز قدرة التحمل.
ولعلّ السؤال الأكثر إلحاحًا: ما الذي نخسره بسبب غياب نموذج دائري فعّال؟
الإجابة ليست بيئية فحسب، بل اقتصادية. وفقًا للبنك الدولي، حيث تُقدّر الخسائر الاقتصادية جرّاء سوء إدارة النفايات في تونس بأكثر من 250 مليون دينار سنويًا، وهو رقم يفوق ميزانيات بعض الوزارات. في حين تُشير تقديرات مراكز الدراسات اامحلية إلى أن الاستثمار في الاقتصاد الدائري قد يدرّ ما يفوق 1.2 مليار دينار سنويًا على مدى السنوات الخمس القادمة، ويوفّر عشرات آلاف مواطن الشغل، خاصّة في قطاعات التدوير والتصميم البيئي والفلاحة الذكية.
مشروع اقتصادي بديل
يؤكد اغلب الخبراء والناشطين في الاقتصاد البيىي والدائري ان ما يجعل الاقتصاد الدائري مثيرًا للاهتمام في السياق التونسي هو قدرته على إدماج الفئات المهمّشة، وتحويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة إلى مؤسسات فاعلة في منظومات إنتاج جديدة. فمثلًا، يُمكن لمئات ورشات النسيج أن تتحوّل إلى وحدات تثمين الأقمشة، في بلد يُنتج 40 ألف طن من نفايات النسيج سنويًا.
في القطاع الفلاحي، تشكّل المخلفات الزراعية عبئًا موسميًا كبيرًا. لكن هذه النفايات، التي تُقدّر بأكثر من 500 ألف طن سنويًا، قادرة على أن تتحوّل إلى سماد عضوي وغاز حيوي (biogaz) يغذّي الفلاحة المستدامة ويقلّص التبعية للأسمدة والوقود المستوردين. ما ينقص ليس الإمكانات، بل المنظومات الداعمة والتشريعات المُشجّعة.
أين يكمن الخلل؟
رغم كل الإمكانيات التي يمكن ان يوفرها الاقتصاد البيئي والتشجيعات التي تخصص للناشطين في المجال ، لا تزال تونس في منطقة رمادية، فغياب استراتيجية وطنية شاملة للاقتصاد الدائري يجعل المبادرات مشتتة، ومجهودات البلديات أو الشركات الناشئة معزولة. كما أن الإطار التشريعي ما زال أقرب إلى منطق المعالجة لا الوقاية، أي معالجة النفايات بعد تراكمها، لا منع إنتاجها المفرط منذ البداية.
وإلى جانب النقص في التمويل، يواجه هذا القطاع عائقًا ثقافيًا ومعرفيًا. فغالبية التكوين المهني والجامعي لا يُدمج مبادئ الاقتصاد الدائري ضمن مواده، مما يُفرز سوق عمل لا تملك المهارات المطلوبة للتحول البيئي. كما أن المواطن التونسي، وهو الحلقة المحورية في عملية الفرز والتثمين، ما زال غائبًا عن المعادلة، بسبب ضعف حملات التوعية وغياب منظومة حوافز واضحة.
النفايات و الفرص التنموية
يتطلب التحول إلى الاقتصاد الدائري فقط إرادة سياسية واضحة، وقرارات استراتيجية جريئة لا معجزات علمية أو خارقة
وهناك العديد من الفرص والمحاور التي يجب أن تُبنى عليها السياسة العمومية ويمكن أن تجعل من الاقتصاد الدائري عاملا مهما من عوامل وأسباب النهوض الاقتصادي لعل ابرزها وضع إطار قانوني محفّز يدمج الاقتصاد الدائري ضمن خطط التنمية ويمنح حوافز ضريبية للمشاريع الدائرية.
بالاضافة الى دعم البحث والتجديد في مجالات التصميم البيئي، تكنولوجيا التثمين، والتدوير الذكي
وتوسيع الاستثمار في البنية التحتية المخصّصة لفرز النفايات ومعالجتها محليًا.
ثم إطلاق برامج تكوين مهني جديدة في اختصاصات الاقتصاد الأخضر والدائري، علاوة على إشراك المجتمع المدني والبلديات في تجريب نماذج مصغّرة للاقتصاد الدائري على المستوى المحلي، بما يُتيح التعلّم والتكيّف التدريجي.
دروس من العالم
لقد أثبتت التجارب العالميةبما لا يدع مجالاً للشك أن الاقتصاد الدائري ليس حلمًا بيئيًا بل واقع اقتصادي مربح. فهولندا، على سبيل المثال، وضعت خطة منذ عام 2016 للوصول إلى اقتصاد دائري بنسبة 100% بحلول 2050، ونجحت في تقليص استخدام الموارد الأولية بنسبة 25% خلال 5 سنوات فقط. كما خلق القطاع أكثر من 54 ألف وظيفة جديدة في مجالات التصميم، التدوير، والصناعات منخفضة الانبعاث.
أما الصين، التي كانت تُعرف يومًا بـ"مصنع العالم"، فقد تحوّلت إلى مختبر ضخم للاقتصاد الدائري ،وأطلقت منذ 2009 برنامج "المدن الدائرية" وشملت التجربة أكثر من 100 مدينة، مما ساهم في رفع معدل إعادة التدوير الصناعي إلى أكثر من 73%.
في كينيا، إحدى أنجح التجارب الإفريقية، تم حظر الأكياس البلاستيكية منذ 2017، ودعمت الحكومة أكثر من 300 شركة ناشئة متخصصة في التدوير والإنتاج البديل، مما خلق سلسلة قيمة جديدة تضم آلاف العمال.
وبحسب تقرير المفوضية الأوروبية الصادر في سنة 2024، فإن الانتقال إلى الاقتصاد الدائري يمكن أن يعزز الناتج المحلي الإجمالي لدولة نامية بنسبة 1.5 إلى 2.0% سنويًا، ويقلّص من فاتورة استيراد المواد الخام والطاقة بما يتجاوز 10 مليارات دولار في الاقتصادات المتوسطة.
تونس على مفترق طرق
إذا كان الاقتصاد الدائري قد أثبت عالميًا أنه خيار مربح اقتصاديًا وضروري بيئيًا، فإن تونس اليوم تقف على مفترق طرق حاسم. فما بين الواقع المُثقل بنفايات لا يتم استغلالها، والفرص الكامنة التي تقدر قيمتها بمليارات، تظل معركة "الرؤية والتطبيق" هي التحدي الأكبر.
تشير تقديرات صادرة في ماي 2025 عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن البلدان التي تستثمر 1% فقط من ناتجها المحلي في مشاريع دائرية قادرة على مضاعفة العائد ثلاث مرات خلال عقد واحد. وبما أن الناتج المحلي الإجمالي لتونس بلغ حوالي 150 مليار دينار سنة 2024، فإن استثمار 1.5 مليار دينار في الاقتصاد الدائري يمكن أن يدرّ عوائد تتجاوز 4.5 مليارات دينار بحلول 2035.
ما ينقص تونس ليس الموارد، بل التكامل بين القطاعات، والوضوح الاستراتيجي، والجرأة على التحول البنيوي. فالاقتصاد الدائري لا يمكن أن يُبنى على المبادرات الفردية فقط، بل يحتاج إلى رؤية وطنية تُترجم إلى سياسات مالية، تربوية، وتشريعية تُحدث الفرق.
السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس: "هل نُريد اقتصادًا دائريًا؟"، بل:
"كم نخسر يوميًا بسبب التأخّر في اعتماده؟"
إن الرهان على الاقتصاد الدائري ليس رفاهًا بيئيًا، بل خيارًا اقتصاديًا استراتيجيًا لتونس في سياق شح الموارد، والتغير المناخي، وارتفاع نسب البطالة وما تراه الدولة "نفايات"، تراه عديد المؤسسات العالمية "مواد أولية" تُصنع منها الثروة.
تونس قادرة على أن تكون ضمن دول الجنوب الرائدة في هذا التوجّه، شرط أن تُحرّك آلياتها التشريعية والتخطيطية في الاتجاه الصحيح. فهل ننتظر حتى تغمرنا النفايات، أم نبني منها اقتصادًا جديدًا ومستقبلاً أكثر عدلاً واستدامة؟