فقد سجّلت وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية، خلال الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2025، تطوّرًا ملحوظًا في نسق المشاريع المصادق عليها، بلغ 743 مشروعًا بقيمة 102,6 مليون دينار، مما يمثّل إشارة قوية على حيوية القطاع وثقة المستثمرين فيه.
الأبلغ من الأرقام، هو التنوّع في الفاعلين والقطاعات، من شباب ونساء وشركات أهلية، ومن الفلاحة التقليدية إلى الخدمات الحديثة وتربية الأحياء المائية، التي قفزت استثماراتها بنسبة تفوق 1000% مقارنة بالسنة الماضية.
هذه الديناميكية ليست مجرد أرقام، بل هي انعكاس لحلم مشترك عنوانه بناء اقتصاد أخضر، متجذر في الأرض، منفتح على المستقبل، ومنتج للثروة والفرص.
من هذا المنطلق، نفتح في هذا المقال نافذة تحليلية على خفايا هذا الانتعاش، ونحاول أن نفهم معناه الحقيقي: هل هو مجرد حراك ظرفي؟ أم بداية لتحوّل استراتيجي يُعيد الاعتبار للفلاحة كركيزة تنموية وطنية؟
تتجلّى أهمية هذا الزخم في كونه لا يقتصر على الكمّ، بل يتوسّع ليشمل التنوع في القطاعات والفاعلين. فقد شملت المشاريع المصادق عليها قطاعات أساسية من بينها الفلاحة التقليدية (46 مليون دينار)، والخدمات المرتبطة بها (32,1 مليون دينار)، وتربية الأحياء المائية (14,4 مليون دينار)، والتي حققت نموًا صاروخيًا بنسبة 1046% مقارنة بسنة 2024 كما انخرط في هذه الديناميكية 129 باعثًا شابًا و57 باعثة من النساء، بما يعكس حركية اجتماعية واقتصادية واعدة.
غير أن قراءة هذه الأرقام تتطلّب تحليلًا متعمّقًا يتجاوز المؤشرات السطحية، للتساؤل حول مدى استدامة هذا النمو، وقدرة المنظومة الحالية على تحفيز الاستثمار المنتج، وتسهيل النفاذ إلى التمويل، وضمان تحوّل هذه المشاريع من تصاريح على الورق إلى واقع اقتصادي واجتماعي ملموس، خصوصًا وأن 1950 تصريحًا استثماريًا إضافيًا قُدّرت قيمتها بأكثر من 400 مليون دينار، لا تزال تنتظر البتّ والتفعيل.
تفكيك خارطة الاستثمار القطاعي
عند تحليل التوزيع القطاعي للاستثمارات المصادق عليها، نلاحظ أولوية واضحة للقطاع الفلاحي التقليدي، الذي استقطب 46 مليون دينار من مجموع الاستثمارات، بما يؤكد استمرار الثقة في الزراعة كمصدر أساسي للدخل الوطني. لكن المثير للاهتمام هو الصعود اللافت لقطاع الخدمات المرتبطة بالفلاحة والصيد البحري بـ 32,1 مليون دينار، وهو مؤشر على تزايد الوعي بضرورة مرافقة الإنتاج بخدمات لوجستية وتسويقية وتقنية.
ويأتي قطاع تربية الأحياء المائية كأبرز المفاجآت في هذه الفترة، حيث شهد نموًا بـ 1046% مقارنة بسنة 2024، لتبلغ الاستثمارات فيه 17,4 مليون دينار بعد أن لم تتجاوز 1,5 مليون دينار قبل عام. ويمثل هذا التحوّل نقلة نوعية في استراتيجيات الإنتاج الغذائي، حيث أن تربية الأسماك والأحياء المائية تُعدّ من أكثر القطاعات الواعدة عالميًا من حيث العائد والاستدامة.
أما قطاع الصيد البحري، فقد استقطب 6,2 مليون دينار، في حين اكتفى قطاع التحويل الأولي للمواد الفلاحية والبحرية بمليون دينار فقط، وهو ما يعيد إلى الواجهة التساؤلات حول ضعف الاستثمار في سلاسل التثمين والقيمة المضافة.
حضور واعد للشباب والنساء
من بين 743 مشروعًا تمت المصادقة عليها، كان لـ الشباب نصيب بـ129 مشروعًا بقيمة 12,4 مليون دينار، وللنساء 57 مشروعًا بقيمة 5,6 مليون دينار. كما تم تسجيل 7 مشاريع لفائدة الشركات الأهلية، في ظل الدفع نحو الاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
رغم هذه الأرقام المشجعة، فإنّها لا تزال تمثّل نسبة متواضعة من إجمالي الاستثمارات، ما يطرح أسئلة جدّية حول قدرة المنظومة على إدماج الفئات الهشّة والفاعلين الجدد. فلا يكفي الإعلان عن برامج تحفيزية، بل يجب تقييم مدى فعاليتها وقدرة المستفيدين على النفاذ الفعلي للموارد، ومواكبتهم فنيًا وماليًا لضمان استدامة المشاريع.
لقد حظيت الاستثمارات المصادق عليها بـ منح بقيمة 24,9 مليون دينار، أي بنسبة 24,3% من إجمالي الاستثمارات، وهو دعم مهمّ يعكس استمرار سياسة الدولة في تحفيز الاستثمار الفلاحي.أما القروض، فقد تطورت نسبتها إلى 30,1% من قيمة المشاريع، بعد أن كانت 26,2% سنة 2024، وشملت 344 مشروعًا أي 46% من إجمالي المشاريع المصادق عليها.
ورغم هذا التحسّن، لا تزال محدودية النفاذ إلى القروض تمثل عقبة، خاصة أمام الباعثين الشبان والنساء، في ظل منظومة بنكية متحفظة وبطيئة، وغياب أدوات تمويل مبتكرة تتلاءم مع خصوصيات القطاع، كالتأمين الفلاحي، والتمويل التشاركي، والصناديق الاستثمارية المخصّصة للقطاع الزراعي.
الثقة في مناخ الأعمال
تشير المعطيات الرسمية انه تم التصريح بـ 1950 مشروعًا بقيمة 400,6 مليون دينار إلى غاية نهاية أفريل 2025. ورغم أن هذا الرقم يعكس اهتمامًا متزايدًا بالاستثمار الفلاحي، فإنّه يكشف أيضًا عن بطء نسق البتّ والمصادقة، ما قد يُهدّد بفقدان حماسة الباعثين أو نقل استثماراتهم إلى قطاعات أو دول أخرى.
وهنا تكمن الحاجة الملحّة إلى إصلاحات إدارية جذرية، تشمل تبسيط المسارات، رقمنة الملفات، وضمان الشفافية في آجال المعالجة والتصرف في الاعتراضات.
رغم أهمية المؤشرات، إلا أن نجاح أي سياسة استثمارية لا يُقاس فقط بعدد المشاريع أو قيمتها، بل بقدرتها على خلق الأثر الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المستدام ولتحقيق ذلك، من الضروري ربط الاستثمار الفلاحي بسياسات المياه، والطاقة، والبنية التحتية، والتصديروتعزيز منظومة التكوين والبحث الزراعي لتأهيل الفلاحين وتحديث أساليب الإنتاج
وكذلك تثمين المنتجات وتحفيز التصدير عوض الاكتفاء بالأسواق المحلية بالإضافة إلى دعم سلاسل التحويل والتسويق والتبريد والنقل الفلاحي التي ما زالت تعاني من نقص كبير ،و إحداث آلية متابعة وتقييم للمشاريع بعد المصادقة لضمان الفعالية والنتائج.
يعد الاستثمار في الأرض والماء والإنسان الاستثمار الوحيد الذي لا يخيب، وإذا أحسنت تونس إدارة هذا المورد الإستراتيجية، فقد تضع بذلك الأسس الفعلية لسيادة غذائية واقتصاد دائري منتج وعادل ومستدام ورغم أنها بذلت في مجال الاستثمار الفلاحي خلال بداية سنة 2025 جهودا كبيرة وحققت تقدما لا يُستهان به، لكنه لا يبقى غير كاف فالمطلوب اليوم هو الانتقال من المقاربة الظرفية إلى الرؤية الإستراتيجية، ومن التمويل إلى التأطير، ومن التحفيز إلى التمكين.