التي تنوي حكومته ممارستها في المستقبل. وإن قرر بيرو عدم تقديم لائحة استحسان للبرلمان فإن حزب "فرنسا الأبية" الممثل لليسار الراديكالي قد قدم مشروع لائحة لوم ضده قبل بداية تلاوة الخطاب.
وحاول الوزير الأول في تسعين دقيقةقراءة أفكاره العامة المكتوبة مسبقا حول السياسات المستقبلية بطريقة بيداغوجية مركزا على المبادئ التي يعتبرها أساسية في الحياة السياسية وهي دعم النظام الديمقراطي ومشاركة النواب عن الأحزاب والأطراف الاجتماعية من نقابات العمال والأعراف في المشاركة في صياغة القوانين الهامة وفي مقدمتها قانون التقاعد. أسلوب جديد يفضل التوافق على الخلافات الجوفاء التي لا تقدم حلولا للمشاكل، بل تضيف عدم الاستقرار إلى الأزمة السياسية القائمة. أسلوب فرنسوا بيرو فاجأ الجميع في نوعيته لأن المحللين كانوا ينتظرون تعدادا للإجراءات التي ينوي الوزير الأول اتخاذها، خلافا لمن سبقه في المنصب ميشال بارنيه، في حين عزم هو على رمي الحجارة الأولى في مشروعه الرئاسي لعام 2027.
اتجاهات عامة في مسائل حيوية
يأتي خطاب بيرو أمام الجمعية الوطنية بعد أن صادق على ميزانية استثنائية تسمح استمرار الدولة في إدارة الشأن العام على أساس ميزانية 2024. وهو ما سهل عمل الوزير الأول في تقديم مقترحاته بعيدا على الضغوطات اليومية. وقد ركز في خطابه على أهم المسائل الخلافية مع الأحزاب المعارضة. في طليعتها قانون التقاعد الذي يعتبره قابلا للتحسين. في حين يطالب اليسار بالتخلي عنه أو، بالنسبة للحزب الاشتراكي، على الأقل إعلان "إيقاف العمل به"، فإن فرنسوا بيرو خير طريقة أخرى. قراره هو أن يطرح القانون الحالي للنقاش مجددا على الأطراف الاجتماعية التي طالبها بأن تقدم له تنقيحا للقانون تشاركيا يتفقون حوله ويحل مشكلة تمويل التقاعد بدون الزيادة في الميزانية. فإن لم يحصل توافق فسوف يستعمل القانون الحالي. إشراك الأطراف الاجتماعية بصورة فعلية هو بادرة في المشهد السياسي الفرنسي عبرت النقابات عن قبولها له.
ذكر فرنسوا بيرو بصفة عامة وغامضة بعض الاتجاهات المبدئية مثل تمسكه بالطاقة النووية في إطار مشروع التحول الإيكولوجي، والعمل على مقاومة البيروقراطية التي تستهلك 4% من الناتج العام في حين لا تتعدى 1،5% في باقي البلدان الأوروبية وذلك عبر إحداث صندوق لدعم إصلاح مؤسسات الدولة، ودعم الصحة العمومية ماليا وتغيير مناهج التعليم لتحسين الجدوى وكذلك دعم مسألة السكن وتخفيف الإجراءات للفلاحين والرجوع لهم في كل القوانين المقدمة والبحث عن التوازن في مسألة الهجرة بدون الحديث عن قانون جديد، والشروع في دراسة المقترحات التي تقدمت بها الاستشارة الوطنية بعد حركة "السترات الصفراء". كل هذه المسائل مطروحة على الحكومة لكن لم يوضح فيها فرنسوا بيرو الإجراءات الجديدة. بل اقتصر على تقديم أسلوب التعامل الذي يراعي التشاور والاتفاق حول المسائل المشتركة. وهو ما يميز "الوسط السياسي" الذي عادة ما يأخذ مسافة من الجميع ويبحث على التوافقات بعيدا عن الصدامات.
بين المطرقة والسندان
من البداية وجد فرنسوا بيرو نفسه بين المطرقة والسندان، مطرقة رئيس الدولة إيمانويل ماكرون الذي لا يرغب في تفكيك "الإصلاحات" التي قام بها منذ 2017 وحزب "التجمع الوطني" المتطرف تحت زعامة مارين لوبان التي اعتمد عليها ميشال بارنيه قبل أن تقرر إسقاط حكومته. فرنسوا بيرو انتهج أسلوب عدم التحاور مباشرة مع الأحزاب وكلف وزير المالية إريك بونبار(ذو اتجاه يساري) التحادث معهم بدون مفاوضة، وخاصة مع زعماء الحزب الاشتراكي، في الإجراءات الممكنة لصياغة ميزانية للدولة تكون ناجعة ومقبولة سياسيا. أما الإجراءات السياسية الأساسية فقد احتفظ بها لتقديمها في خطابه أمام الجمعية الوطنية.
أول إجراء توجه به لليسار وتعلق بتخفيف التقشف على الجماعات المحلية وعدم رفع الضرائب على الأدوية والعلاج وتحسين ظروف السكن. وهي مطالب اجتماعية تدخل في ركائز اليسار السياسي. من ناحية أخرى أعلن تقديم مشروع لإدخال النسبية في الانتخابات التشريعية وهو أحد مطالب "التجمع الوطني" والأحزاب الصغيرة. وأضاف، في اتجاه نفس الحزب، أن حكومته تعتزم فتح "بنك الديمقراطية" يكون مؤسسة عمومية تسهر على دعم تمويل الأحزاب حفاظا عل استقلالية قرارها وعدم اللجوء إلى دول أجنبية، في إشارة واضحة إلى حزب مارين لوبان الذي يعاني من هذه المسألة والمتعلقة به قضية عدلية يمكن أن تسفر إلى منع مارين لوبان من الترشح للانتخابات القادمة في صورة إدانتها.
إن نجح في تمرير هذه الأفكار، بفضل فشل لائحة اللوم، سوف يسجل التاريخ للوزير الأول فرنسوا بيرو أنه الشخصية الوطنية التي حلت معضلة صندوق التقاعد وأنها الأولى التي أدخلت نظام النسبية فيالانتخابات التشريعية وأرست بنكا للديمقراطية لدعم الأحزاب الحياة السياسية وهي لبنات في مشروعه الرئاسي لعام 2027. وسوف يكون له بذلك فرصة ممكنة للبقاء على رأس الحكومة حتى نهاية ولاية إيمانويل ماكرون. في نفس الوقت، أكدت وزيرة الميزانية أمالي دي مونشالان ما تناولته بعض الصحف أن الميزانية الجديدة لعام 2025 تخطط لحذف 32 مليار يورو من النفقات وزيادة 21 مليار يورو من الإيرادات العمومية.
لكن الوزير الأول ليس متأكدا أن رهانه على موافقة الحزب الاشتراكي سوف يسمح له بالبقاء. أصوات عديدة داخل الاشتراكيين عبرت عن رفضها مشروع بيرو بدون أن يكون لها بديل آخر. في كل الحالات حاول فرنسوا بيرو أن يضمن دعم رئيس الدولة وفتح الباب أمام الحزب الأول في البرلمان وهو "التجمع الوطني" وكذلك، بفضل إعادة النظر في قانون التقاعد، مغازلة اليسار الاشتراكي على أمل ألا تحصل لائحة اللوم الذي تقدم بها حزب "فرنسا الأبية" على العدد الكافي للإطاحة بالحكومة وإدخال البلاد في أزمة حكم حقيقية لا يعرف مآلها.