أن فهم ما بعد سقوط نظام بشار الأسد يتطلب نظرة عميقة في التحولات الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة، إذ لا يمكن عزل ما يحدث في سوريا عن تأثيرات الحرب الإسرائيلية على غزة والصمت الدولي الذي أتاح لإسرائيل أن تهيمن على الجغرافيا السياسية لبلاد الشام.
وأكد النشواتي في حديثه أن انهيار النظام السوري سرعان ما أدى إلى تغيير موازين القوى الإقليمية، مع تراجع واضح في دور كل من إيران وروسيا، في مقابل صعود تأثير قوى أخرى مثل تركيا وإسرائيل وقوات سوريا الديمقراطية بدعم أمريكي خليجي.
ما هي السيناريوهات المحتملة في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد؟
لا يمكن فهم السيناريوهات المحتملة لسوريا من دون فهم السياق الذي سقط من خلاله الأسد، وذلك لارتباط سقوطه بتعبات جيوسياسية في المنطقة، على عكس ماكان سابقا إبان مشروع أوباما "الربيع العربي"، حيث يرتبط سقوط الأسد كما وضحنا بمنشورات ومقالات سابقة بانهيار البنية الجيوسياسية للمنطقة بفعل حرب الإبادة والتطهير العرقي التي تمارسها إسرائيل في غزة، حيث أدى الصمت والعجز الدوليين إلى وضع الجغرافية السياسية لبلاد الشام بالكامل تحت الخطر والتهديد والتي هي بالأصل تعاني من هشاشة في بنيتها الداخلية.
انهيار البنية الجيوسياسية لبلاد الشام أثّر بشكل مباشر على دور القوى الإقليمية فيها، حيث تراجع بشكل ملحوظ الدور الإيراني فيما نبه هذا الانهيار الرئيس التركي لخطورة استراتيجية نتينياهو على تركيا والمتمثلة بإطالة أمد الحرب وتوسيعها وتصدير أزماته الداخلية المتراكمة من فشله في غزة وزيادة تعاونه مع قوات قسد في سوريا، الأمر الذي دفع أردوغان إلى التحرك وتوحيد جميع الفصائل السورية في غرفة عمليات مشتركة ودعوة الأسد في نفس الوقت للحوار ، في محاولة لقطع الطريق أمام نتنياهو في استهداف المنطقة وصولاً لاستخدام الأكراد كورقة ضغط على الأمن القومي التركي.
لم يرحب الأسد أبداً بدعوات الحوار بالرغم من كل الضغوط الروسية والإيرانية، وكان الرفض أمراً غير مبرر على الإطلاق لا سياسياً ولا استراتيجياً، وقد دفع انهيار البنية السياسية والعسكرية لحزب الله في حربه ضد إسرائيل أردوغان إلى التحضير لممارسة ضغط عسكري حقيقي على الأسد لإلزامه بالتفاوض عبر إطلاق يد الفصائل المسلحة في إدلب باتجاه حلب بهدف تطويق الاكراد والضغط على الأسد إلا أن الانهيار السريع للقوات والانشقاقات الكبيرة التي حدثت إضافة إلى نجاح التكتيكات العسكرية الجديد للفصائل بما فيها استخدام المسيرات واستهداف القادة في الميدان جعل الطريق سالكاً بلا مقاومة تذكر نحو حلب ومنه إلى دمشق فيما بعد.
ماهي أبرز التحديات التي ستواجه سوريا في المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام؟
سقوط الأسد بهذه السرعة ولجوئه إلى روسيا بالتزامن مع بدء حملة قصف إسرائيلية هي الاقوى بتاريخها يدفع بشكل غير قابل للشك للاعتقاد بأن الأسد قد ساوم على خروجه الآمن بمواقع الأسلحة السورية الاستراتيجية لاسرائيل، خاصة مع توارد أنباء عن محاولاته عرض صفقة على ترامب تضمن له البقاء في السلطة والتي اقتصرت فيما بعد على بقاءه على قيد الحياة. الأمر الذي رسم ملامح المرحلة المقبلة حتى قبل أن تبدأ، حيث أصبحت إسرائيل بدباباتها على بعد حوالي 20 كم من دمشق في الوقت التي تحاول إدارة العمليات التابعة للفصائل المسلحة محاولة ملىء الفراغ الأمني والسياسي والعسكري ولكن أيضاً بدون خطة أو تحضير مسبق لذات الأسباب التي ذكرناها سابقاً.
هذا يعني أن مستقبل سوريا حالياً هو بين ثلاث فاعلين أساسيين الأول هو إسرائيل والثاني هي قسد بدعم أمريكي-خليجي والثالث هي تركيا، في حين تراجع دور كل من روسيا وإيران إلى أضعف ما يمكن واقتصر على الاتفاق مع الجميع في الدوحة لتقديم ضمانات لعدم تقسيم سورية أو إطلاق عمليات انتقامية.
ماهي قراءتكم المشهد السياسي السوري في المستقبل وماهي ترتيبات اليوم التالي؟
هذه الضمانات التي تم تقديمها باجتماع جميع الفاعلين في الإقليم مهدت لإنشاء تصور حول اليوم التالي في سوريا حيث الفصائل الجهادية التي تعمل بدعم وقيادة تركية ("هيئة تحرير الشام" و"الجبهة الوطنية للتحرير" و"جيش العزة" وغيرها) والتي تنسق عملياتها وقيادتها في غرفة عمليات واحدة "غرفة عمليات الفتح المبين" لا تسعى للسيطرة على الحكم بشكل مباشر في سوريا، وقد ظهر ذلك جلياً في تعيينهم لرئيس حكومة إنقاذ غير عسكري بالإضافة إلى البيانات التي تتالت من قبل غرفة العمليات بضرورة الحفاظ على وحدة البلاد والسلم الأهلي ورفض الانتقام.
إلا أن هذه التصورات بالإضافة إلى آمال الشعب السوري في الخلاص وبناء دولة الحرية الحقيقية بديمقراطية وليدة السياق المحلي والأهلي وغير مستوردة تصطدم بحقيقة الاجتياح الإسرائيلي وتدمير مقدرات الدفاع السورية والتنسيق الإسرائيلي الكردي الأمريكي ما يجعل مستقبل سوريا على المحك من هذه القوى. ويدفعنا للجزم أن الانهيار البنيوي الجيوسياسي في بلاد الشام آخذ في الاتساع بشكل متسارع وكبير والذي بدوره يمكن أن يشكل فرصة لصهر كل القوى الإسلامية المقاتلة من أفغانستان إلى لبنان في معركة تحرير كبيرة على الأراضي السورية ويجعل تفكك قسد من خلال ارتداد المكونات غير الكردية فيها أمراً شبه أكيد.
من ناحية أخرى تواجه الجماعات والأنظمة العربية والإسلامية تحديات وضغوطاً مستمرة تعيد تشكيل بنيتها وأدوارها، مما يفتح آفاقاً جديدة لتطوير النظام السياسي العربي والإسلامي. هذه التحولات قد تساهم في خلق نموذج سياسي جديد يتجاوز أزمات وتعقيدات النظام التقليدي للقرن الماضي وتصنيفاته. تظهر هذه الضغوط في مختلف السياقات، مثل لبنان الذي شهد اغتيال شخصيات قيادية من حزب الله، وسوريا حيث أن الإسلاميين مجبرون على استيعاب التنوع الإثني والعرقي والديني في البلاد وملائمة تنظيماتهم وأيديولوجياتهم مع الواقع السوري. أما في أفغانستان، فحركة طالبان تسعى جاهدة للتكيف مع متطلبات إدارة الدولة في ظل التحديات المعاصرة.
كيف ترون تأثير هذا التحول في سوريا على الدول المجاورة مثل غزة لبنان والأردن والعراق؟
يمكن القول أن المنطقة تتجه نحو مزيد من الانهيار مما يهدد كل من لبنان بالابتلاع الإسرائيلي ، والأردن بضم الضفة الغربية ونسف الوصاية الملكية في فلسطين بمباركة ترامب، والعراق بفك ارتباطه مع إيران وأمركته بالكامل تمهيداً لتغيرات جيوسياسية ضخمة ستتجاوز إيران وتركيا لتصل أوكرانيا .
هذه السيناريوهات ستكون واقعا في حال نجاح نتنياهو في إستراتيجيته لتطويق لبنان من سوريا وتوسيع سيطرته في المنطقة وإخضاع دمشق، ممّا سيخلق في المقابل ذريعة مهمة لكل الفصائل الجهادية في المنطقة للانخراط المباشر ضد المحتل الصهيوني إسرائيل في معركة تحرير جهادية عالمية كبرى تمتد من أفغانستان إلى الجولان السوري المحتل.
أما السيناريوهات الأخرى فهي ليست واقعية بدون الحديث عن تراجع نحو استقرار غير قلق (مفتعل بالقوة) وانسحاب إسرائيلي من الأراضي السورية واعترافها بدولة فلسطينية -وهو بشهادة التاريخ لا يمكن أن يحدث بدون مقاومة شرسة خالية من الاعتبارات السياسية والولاءات للأنظمة الأيديولوجية وتكاتف حقيقي بين الفاعليين الإقليميين- بالتالي يبقى من المرجح حاليا أن تسعى الفصائل إلى سد الفراغ السياسي والأمني وتمتين سيطرتها على مؤسسات الدولة وتأجيل ملف التواجد الأجنبي، والعمل من جهة أخرى إقليميا ودولياً لدخول مواجهة كبرى مع إسرائيل.