لقاءات لرتيستو مسرحية "حاجة اخرى" اخراج محمد كواص: نظرة مجنونة لعالم اكثر فوضى وجنون

ماذا لو نطقت الدمى كيف ستقرأ حياة بني الانسان؟ ماذا لو منحت الفرصة للدمى لتعبّر عن رأيها

وتطرح افكارها هل ستساعد الانسان على التطوّر والتغيير؟ ما ذا لو اصبح للدمية مشاعر وقرارات؟ هل ستشبه بني ادم ام ستكون اكثر انسانية؟ اسئلة انطلق منها محمد كواص في عمله الجديد "حاجة أخرى" لينقد واقعه ويقدم بطريقة مجنونة نظرة مختلفة لليومي عملا بمقولة فيليم دافو "يتعلق المسرح العظيم بتحدي طريقة تفكيرنا وتشجيعنا على تخيل عالم نطمح إليه وهذا العالم سماه مخرجه "حاجة اخرى".

المسرحية كتبت عن نص اصلي لكولتيز من تمثيل يحى الفايدي واصالة كواص واستشارة فنية لناجي القنواتي، اضاءة شوقي مشاقي وموسيقى علياء السميعي وقدم العمل ضمن لقاءات لرتيستو المسرحية مساء الاثنين 9ديسمبر 2024.

حاجة أخرى: المسرح نافذة على السؤال

تمتزج الضحكة بالألم، من مساحة ضيقة وأروقة اكثر ضيقا ستنطلق اللعبة/الحكاية، مع "مان" و"كان" الدميتين سيكتشف المتفرج الانسان حقيقته وحقائق بني جنسه، من واجهة خارجية لمحل لباس تبدأ الرحلة لتشمل فضاءات متعددة، فأماكن اللعب مختلفة ولكل مكان تأثيره المباشر في الاحداث وتاثيره في مناخات لعب الممثل وحياة الاشخاص الحقيقيين، من واجهة بلورية تنطلق قصة تمزج الكوميديا بالتراجيديا ويبدأ سرد مجموعة من القضايا التي تهم الانسان التونسي وتبروز مشاكله بطريقة تضحك لمتفرج وتجبره على السؤال ايضا.
المسرحي ابن بيئته ولا يمكن للفنان ان يكون منفصلا عن واقعه لذلك حمّل كاتب النص ومخرج المسرحة محمد كواص شخصياته بالكثير من الالم وشحنها بوجع الراهن وألم التفكير في حال التونسي، جعل شخصياته تبوح بوجع الناس وأحلامهم المجهضة وابتساماتهم المسروقة في بلد الاخطاء الطبية وارتفاع اثمان العلاج في المصحات الخاصة وانتشار البطالة والطرق الملتوية دون ادلة والصرعات الحزبية والتناحرات السياسية يضيع المواطن الباحث عن حقّه في الحياة الكريمة، كل هذه القضايا يحوّلها كواص الى نص جريء مشحون بالغضب والوجع ويقدمها ممثلين بطاقة لعب رهيبة مزجوا فيها الكوميديا بالتراجيديا ليكون "حاجة اخرى" عملا يرشح بالنقد.
فضاء اللعب مربع صغير سيتغير من مشهد الى اخر، وزمان الاحداث ليلة واحدة، الفضاء سيكون مرة واجهة المحل، ثم المطار والشقة والمستشفى والحانة والحمام آخرها، فالشخصيات غير البشرية ستتبع صاحبها الانسان وتحاول معرفة كل خطواته لتقضية الوقت، وكلما زار مكان كانوا جزء من الحدث وحوّلوه الى حدث درامي، وبين الامكنة المتعددة تتعدد سبل نقد المجتمع التونسي والمنظومات الاجتماعية والاقتصادية لهذا البلد.
تصنع الاضاءة في العمل مناخات نفسية رهيبة، الاضاءة الخافتة والمسلطة على وجه الممثل في اكثر المشاهد ساهمت في توجيه ذهن المتلقي وطريقته في التفاعل مع العمل المقدّم، بالإضاءة سيعرف الجمهور دواخل الشخصيات وانفعالاتها النفسية والعاطفية كما ساهمت الاضاءة في "تعددية الادراك البصري في اللحظة المسرحية الواحدة والتقطيع الى لوحات متعددة ضمن المشهد الواحد" فالضوء في العمل خلق جماليات سينوغرافية محددة انسجم فيها احساس الخوف وافرحة والتعاطف مع الشخصيات وما يقدمونه للمتفرج ليصبح معها المسرح فنا بصريا يستعير تقنيات السينما وألوان الفن التشكيلي ويحوّلها الى جماليات مغرية تكون مساحة لفهم العمل وفهم الشخصيات ورسائلها.
"حاجة اخرى" عنوان المسرحية وكلمة تتكرر في اغلب منطوق الشخصيات، حاجة اخرى هي الوجه الاخر لتونس، الوجه غير المعروف لطباع البشر، الوجه المختلف عن المالوف للجميع، حاجة اخرى الوصفة المختلفة لشفاء الدمى من دموية الانسان وعنفه اللفظي والمعنوي.
المسرحية تجربة ابداعية تشرّح المجتمع التونسي وتحاكم العديد من قضايه، تضعه عاريا على مصطبة التشريح المسرحي وتحاول اعادة تركيبه من جديد بعد فهم مكوناته وتناقضاته ودراسة اساب الهنّات فيه، المسرحية صرخة لانقاذ هذا المجتمع والانصات لانين الانسان المكتوم، عمل يوجه اصابع اللوم مباشرة للمنظومة لانها تتحمّل ما وصل اليه الانسان من هنات نفسية ودعوة صريحة للتغيير لان المسرح كان ولا يزال منبرا للحقيقة ودعوة مستمرة للتحرر.

الممثل عرّاب المسرح وجسده صانع الحقيقة

اثنان ثالثهما الصدق ورابعهما الحرفية، ممثلين اثنين سيحملان وزر الشخصيات وحكاياته ومخاوفها ومعها شيفرات عمل مسرحي مسكون بطاقة النقد، يشتعل الضوء تدريجيا شخصين رجل وامرأة يجلسان على مصطبة، يحاول هو الكلام ويقول "تعلّم" فتحاول مجاراته لكنها تعجز، ومع المشهد سيفهم المتلقي انّه امام دميتين وليس شخصيات بشرية، هما "كان و"مان" دميتين على واجهة احد المحلات سيخوضان مغامرة طريفة بتتبع صاحب المحل وهكذا يكتشفان عالم الانسان ومعهما يكتشف الجمهور عوالمه التي تعوّد عليها برؤية اخرى.
في العمل اجتمع ممثلين مبدعين، أتقنا المسك بزمام الشخصية، الحركات بطيئة ودقيقة وكانهما دمى فعلا، الكلمات تخرج يبطئ وايقاع موسيقى مختلف عن منطوق البشر، جسديهما حمّالا معان واستطاعا الثنائي يحى الفايدي واصالة كواص معانقة الابداع بالشخصيات، راقصا الجمال ودقة الحركة وكانت التلقائية والحرفية من مميزات نجاح الممثلين.
يقول مدحت الكاشف ان جسد الممثل هو مصدر كل الأشياء:الطاقة والحضور والصوت والخيال والتعبير والانفعالات والمشاعر والأحاسيس والأفكار هو الذي يجعل ما هو غير مرئي مرئيًا هكذا كان الثنائي يحى الفايدي واصالة كواص كلّ منهما له طريقته في الاداء واللعب لكنهما حققا التناص مع حقائق الشخصية وكل جزئياتها، تماهى حدّ الحقيقة وما تلك القفزة اخر العمل من فضاء اللعب الى خارجه ونزع نظارات الشخصية والعودة الى حقيقتهم البشرية وذاك التأثر الكبير الاّ عنوان لجديتهما في معالجة الشخصية والتعامل معها انها حقيقة وليست مجرد تقنيات ادائية تقدم على الخشبة.
يحى الفايدي في شخصية "مان" واصالة كواص في شخصية "كان" عانقا الروعة في اللعب، هما دميتان يتحكم فيهما الانسان واستطاعا الممثلين ايصال احساس العجز والقهر الذي تعيشه الدمية لانها ليست صاحبة القرار، و"مان و"كان" هما انموذج للطبقة الشغيلة والمسحوقة في المجتمعات الراسمالية، فبعض البشر لا يختلف وضعهم عن الدمية يستغلهم اصحاب راس المال وبعد نهاية استنزافهم يرميهم تماما كما في المسرحية.
فأجساد الممثلين ستكون حمّلة لاحلام البسطاء وعليها ستعلّق امالهم، فـ"مان" يمكن ان يكون ادم بكل وجعه وإحساسه وتناقضاته، و"كان" هي حواء بألم الولادة وخوف النجاح ومفشل العلاقات وقسوة المجتمع الذكوري في حكمها على افكارها "مان ليس ادم، وكان ليست حواء، هما دمى صناعية استعملها الانسان قبل ان يرميهما، ويمكن ان يكونا بشر يستعملها الانسان ويرميهما ايضا" كما تقول اخر جملة من المسرحية بصوت الراوي.
نجح الممثلين في ملامسة الشخصية وتفكيكها، حققا تناصا عجيبا بين الخيال والحقيقة، فالممثل في حاجة اخرى هو كاهن لمسرحية وعرّاب اللعب المسرحي والحقيقة.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115