وصارع أعتى الأمواج للرسو في موانئ يحلو فيها المقام، وغاص عميقا في اليّم لاستكشاف مرافئ نقيّة أجوائها وأرضها وعبادها! على امتداد حوالي ثلاث ساعات من الفرجة والمتعة، يجذف صاحب "آخر البحر" سفينته ما بين مدّ وجزر في بحر لا يهدأ موجه ولا يستكين ماؤه في إثارة الأسئلة ورج الثوابت والمسلمات عن محكمة الإنسان ومحاكمة الإنسانية... ويحدث أنّه في مهرجان الحمامات الدولي الذي يصافح البحر من علياء مسرحه يتم منع عرض مسرحية "آخر البحر" بعد برمجتها !
قبل أن ينطلق مهرجان الحمامات الدولي في دورته 58 لصائفة 2024، ثار حوله الصخب والجدل والاستنكار بسبب سحب مسرحية "آخر البحر" عن نص وإخراج فاضل الجعايبي لـ"أسباب أخلاقية" ولعديد من "التبريرات المتضاربة والمتناقضة" .
تناقض وتضارب في تبرير منع العرض
في الوقت الذي يعترف فيه القاصي والداني بتجربة فاضل الجعايبي المسرحية، ويستشهد فيه الفنانون والنقاد العرب باسم الرجل كقامة من قامات المسرح العربي، يحزّ في النفس أن يحرم جمهور مهرجان الحمامات الدولي من الفرجة على "آخر البحر"، آخر مسرحيات الفاضل الجعايبي خاصة بعد برمجتها وتحديد موعدها ليوم 18 جويلية 2024. فما السبب؟ ومن المسؤول ؟
في الأيام الأخيرة، تمّ تداول خبرا مفاده شطب مسرحية "آخر البحر" للفاضل الجعايبي من برمجة مهرجان الحمامات الدولي بسبب تضمنه "كلمات خادشة للحياء" ! وهو ما أثار الجدل حول هذه المحاكمات "الأخلاقوية" للعمل الفن وعودة محاكم التفتيش وإعلان الوصية على الأعمال الإبداعية.
وقد ردّ مدير مهرجان الحمامات الدولي نجيب الكسرواي على هذه الواقعة في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء بالقول:" لم نرفض عمل الفاضل الجعايبي ولكننا من بين العملين اللذين تقدمت بهما مؤسسة المسرح الوطني "آخر البحر" و "رقصة سماء"، اخترنا العمل المسرحي "رقصة سماء" للمخرج الطاهر عيسى بالعربي، الذي تشارك فيه الفنانة منى نور الدين التي كانت شاركت في افتتاح مسرح الهواء الطلق وفي الدورة التاسيسية لمهرجان الحمامات الدولي 31 جويلية 1964 وفي العرض الافتتاحي الأوّل لمسرحية "عطيل" قائلا "شرف لنا أن تكون الفنانة القديرة منى نور الدين حاضرة في دورة الاحتفال بالستينية التي هي دورة تكريم لهذه الفنانة وللمسرح التونسي عموما"...
"أزعجتهم جرأة المسرحية فمنعوها"
أمام صمت المدير العام لمؤسسة المسرح الوطني التونسي معز مرابط عن توضيح حقيقة ما جرى، أصدر المخرج فاضل الجعايبي في الساعات الأخيرة بيانا للرأي العام أوضح فيه حقيقة ما جرى بكل التفاصيل والحيثيات والتطورات.... وقد جاء في هذا البيان ما يلي: "في الوقت الّذي يسحب فيه مدير المهرجان الدّولي للحمامات مسرحية "آخر البحر" بعد برمجتها، والتّعلل بأسباب متضاربة متناقضة. في الوقت الّذي يهبّ فيه فنانون ونقّاد ومتفرجون منددين بعودة الرقابة ومدافعين على حرية التعبير. في الوقت الّذي يختار فيه منتج العمل وموزعه المدير العام للمسرح الوطني الصمت باسم واجب التحفّظ. وفي الوقت الّذي لم تحرّك فيه سلطة الإشراف ساكنا. وفي الوقت الّذي كنت آمل كعادتي، مع كلّ عمل جديد، أن أضع مع مجموعة الممثلات والممثلين والتقنيين، اللمسات الأخيرة في تحضير جولة العروض الصّيفيّة، أراني مضطرّا لتنوير الرأي العام وإعلامه بحقيقة ما حدث والتنديد بهذه المهزلة. "
وفي تصريح خصّ به "المغرب" قال المخرج فاضل الجعايبي : " أولا لابد من التوضيح أنّ التواصل مع مدير مهرجان الحمامات الدولي كان يتم عن طريق مدير مؤسسة المسرح الوطني باعتباره الجهة المنتجة في مرحلة ما بعد برمجة "آخر البحر" يوم 18 جويلية 2024 في مهرجان الحمامات الدولي .. ومن بين ما أبلغني به المدير معز مرابط أنّ مدير مهرجان الحمامات طلب نصّ المسرحيّة لكنه رفض تزويده بالنّص واقترح عليه الحضور في عرض من عروض المسرحيّة....وهو ما تم فعلا. ويبدو أنّ جرأة المسرحية ومشاكستها للسلطة وللأعراف وللعقلية الذكورية... قد أزعج من يظنون أنفسهم أوصياء على الفن وعلى الجمهور. "
"الرقابة خطّ أحمر لا نقبل بتجاوزه"
في توضيح حقيقة رفض عرض "آخر البحر" لادعاءات "أخلاقوية"، أكد فاضل الجعايبي ما ورد في بيانه، قائلا: اتّصل مدير مهرجان الحمامات بمدير المسرح الوطني وفاجأه بأنّ الظّروف المادّيّة للمهرجان لم تعد تسمح له ببرمجة المسرحيّة، فتنازل مدير المسرح الوطني على الاتّفاق الأوّل وقبل التّخفيض في سعر العرض. أجابه مدير المهرجان بأنّ المشكلة الحقيقية في الواقع هي أنّ النّص يحمل عبارات نابية مخلّة بالأخلاق العامّة فردّ عليه مدير المسرح الوطني بأنّه لا يحقّ له أن ينصّب نفسه رقيبا، وأنّ هذا خطّ أحمر لا يقبل تجاوزه، واقترح عليه أن يتّصل بي إذا أراد التّفاوض في الأمر. هذا ما لم يفعله علما بأنّني لم أقبل في الماضي ولن أقبل النّقاش في هذا الموضوع."
وقد أكدّ المخرج فاضل الجعايبي لـ"المغرب" أنّ مسألة منع عرض "آخر البحر" تتجاوز اسمه أو شخصه لتتحوّل إلى قضية مبدأ...مشددا على أنه طيلة 50 سنة من المسرح ، لم يتخل عن الإيمان بضرورة ممارسة حرية التعبير والإبداع دون قيد أو شرط ولكن بمسؤولية. كما أضاف أن المجال يتسع للجميع ولكن لابد أن تكون الجودة هي المعيار الأساسي في برمجة العروض".
وأرجع فاضل الجعايبي سبب سحب مسرحيته "آخر البحر" من مهرجان الحمامات الدولي بعد عرضها 26 مرة في العاصمة وفي القيروان ومؤخرا في الكاف ضمن "المهرجان الدولي 24 ساعة مسرح دون انقطاع" إلى أنّ المسرحية "كاسحة" وجريئة في خطابها ونقدها الذي يزعج السلطات ويقلق المؤسسات ويسائل المجتمع المدني ... في محاكمة عارية أمام مرآة الإنسانية !
وقد حمّل المخرج فاضل الجعايبي ثلاثة أطراف مسؤولية حرمان جمهور مهرجان الحمامات الدولي من الفرجة على "آخر البحر"، وهم : مدير مهرجان الحمامات ومدير المسرح الوطني والوزير المكلف بتسيير وزارة الشؤون الثقافية منصف بوكثير.
تتجاوز واقعة مسرحية "آخر البحر" الألقاب والأسماء ومحاولة بث بذور الفتنة بين الأجيال والمخرجين لتشكّل دون شك معركة في الدفاع عن حرية الإبداع وعن دور الفن في التنوير ... هي قضية تتطلب الاتحاد لا الانقسام انتصارا لقيم"أب الفنون" !
"آخر البحر".. ماهي حكاية المسرحية؟
في نهاية فاجعة أوريبيداس تغادر "ميديا" - قاتلة ابنيها - الأرض نحو السّماء
على عربة الشّمس تجرّها الأفاعي المجنّحات فرارا من عدالة البشر…
هنا… في هذا المشروع تهاجر أسطورة "ميديا" و"جازون" جغرافيّا وتاريخيّا،
من بلاد الإغريق في القرن الخامس قبل المسيح أرض العرب، الآن وهنا…
حيث التوحّش قد بلغ أقصاه…
ماذا لو امتنعت "ميديا" عن الفرار ومثلت أمام مؤسسات العدالة الصّارمة،
أمام المدافعين والمدافعات عن هذه المرأة الجانية
أمام علماء النّفس تيّاراتهم وتناقضاتهم
أمام الجمهور بأفكاره وأحكامه الجاهزة المطمئنّة…
من سيحاكم "ميديا" عن كلّ جرائمها…
ومن له شرعيّة الحكم بالحياة أو الموت أمام ما يحدث حولنا وأمامنا من مجازر وحشيّة يوميّة يقترفها الإنسان رغم تبجّحه بالإنسانيّة؟
هل استطاعت "ميديا" وهي اليوم بيننا مواجهة الوحش السّاكن فينا، دون إحساس بأيّ ذنب متحدّية كلّ الممنوعات؟
من يحاكم من…؟