تخيل للحظات ان يصبح هذا البلد عام 2034 منتجا للصناعات التكنولوجية و"الدرون" وكل وسال التطور الصناعي بفضل نجاح مهرجان، ل كان تتخيل ان تونس تفتك الصدارة من السعودية والامارات سياحيا وتصبح الوجهة العالمية الاولى؟ لك ان تتخيل ذلك فالخيال مجاني ومباح وبفضل الخيال استطاع الثنائي منصف زهروني وفاطة الفالحي بناء عالم مسرحي جميل ناقد عرّى من خلاله المنظومة الثقافية والسياسية والجنسية في تونس الحقيقية والمتخيلة.
عنوان المسرحية "2034 اقتراح متواضع" من تمثيل فاطمة الفالحي وانتاج سنية الهذيلي ونص واخرلاج منصف زهروني.
الجنس في المسرح تيمة فنية مشاكسة
يصنع المسرح المعجزات،على الركح تتعرى الممثلة من كل القيود المجتمعية والثقافية والقانونية وتتصالح مع الجسد كلغة لتوغل في سردية النقد والانتصار لفكرة الحرية والرغبة في التغيير، تغيير المنظومات الراكدة والسياسات الادارية الفاشلة والمسرح الكوميدي الذي يتصنع ممثليه الإضحاك في الكثير من الأحيان (اغلب الكوميديين من الفئات المهمشة لكنهم يضحكون على ابناء طبقتهم ليمنحوا السعادة للاقطاعيين اصحاب الراسمال) كما يقول نص العمل.
منذ البداية يبدو العمل مختلفا فالممثلة الرئيسية والوحيدة ترحب بضيوف العرض بأسلوب مختلف وتؤكد أن العرض ليس موجها لمن لم يشاهد في حياته فيلما اباحيا، ليس موجها لمن جاء فقط لاكتشاف عري الممثلة وليس موجها للفرنكوفويين الذين لا يعرفون جماليات اللغة العربية فالمسرحية ستكون جريئة، ناقدة تشاكس المنظومات وتضع على طاولة التشريح المسرحي الجنس كمنظومة جمالية وثقافية وتنزع عنه فكرة "العيب/غير المرغوب فيه/الحرام".
ممثلة واحدة وشخصيات مختلفة وحكايات اكثر اختلافا، فاطمة الفالحي ممثلة بكل طاقتها تلعب امام جمهور التياترو شخصية "نيروز التونسية المتميزة في دراستها والمتحصلة على اعلى الشهائد العلمية في جامعات دولية"، بين نيروز وفاطمة خيط تشابه هو التلقائية والرغبة في اللعب، نيروز ستكون سبيل فاطمة الفالحي والجمهور للضحك واكتشاف قبح المنظومات السياسية والثقافية والمجتمعية في تونس، على الخيال اعتمد كاتب النص والممثلة ليقدموا للجمهور مسرحية تشاكس الواقع وترفضه، عمل كوميدي يعترف بدور السخرية السوداء في التغيير وقدرة الضحكة على الحفر في الذاكرة الجماعية ومقارعة السلطة والسياسة وكل المنظومات البيروقراطية.
"2034 اقتراح متواضع" هو عنوان المسرحية وتاريخ احداثها، بطلتها نيروز الرزقي من مواليد 1988 تونسية نجحت في العالم وارادت النجاح في بلدها فوجدت نفسها رئيس ديوان وزير الشؤون الثقافية والمشرفة على تنظيم فعاليات "ايام قرطاج البورنوغرافية" التي ستغير وجهة البلاد وثقافتها وتجعلها من مصدري العملة الصعبة، نيروز من النجاح الى الوقوف امام القاضي وطيلة الساعتين ستتولى الدفاع عن نفسها وافكارها.
تتقمص الممثلة اكثر من شخصية في رحلة دفاعها عن الشخصية، تنتقل من شخصية الى اخرى بما ملكت من اليات تمثيلية وقدرة على الاقناع، يتحرك الجسد ويكشف للمتفرج قدرته على الرفض والتعبير عن مكبوتات المجموعة، تراقص الممثلة حكاياتها وتلاعب الافكار المتمردة المطروحة في المسرحية، فالعمل كوميدي غير مضحك، ساخر وغير جارح، قبيح دون وقاحة وكل احداثه تمت للواقع بصلة والتشابه بين شخصيات المسرحية واشخاص حقيقيين مقصود كما جاء في تقديم المسرحية، التي ستنطلق من فكرة "الكرنفال" في المنظومات الدينية المسيحية المتشددة لتصنع كرنفال تحرري، ثائر متصالح مع الجسد والجنس بنكهة تونسية خالصة.
الكوميديا والسخرية سلاح يقارع السلطة
سينوغرافيا مميزة تؤثث الركح، ديكور يتلائم مع مشاهد العمل ويساهم في التطور الدرامي للحكاية، موسيقى تنسجم مع ايقاعات الممثلة وحركات جسدها واكثر من كوستيم سترتديه الشخصية اثناء اللعب، الملابس يتم تغييرها على الركح ولكل لباس رسالة خاصة في المسرحية، كما اعتمدوا على تقنية "الفيديو" لحضور بقية الشخصيات، فالمسرحية مزيج من الفنون البصرية تشدّ انتباه المتفرج وتعزز ثقافته البصرية وتحفز الذاكرة الانفعالية للعمل وامتصاص الصور واعادة تشريحهلا ذهنيا فالكوميديا لدى منصف الزهروني كاتب النص رسالة وسلاح وليست مجرد اضحاك.
تنقل الشخصية من حكاية الى اخرى وتبدئ برحلة احد الوزراء لقضاء "ويكاند BB BAR ET BORDEL" هذا الوزير حين عودته للوطن يدعى مباشرة الى القصر الرئاسي للتشاور في امور قانونية ودستورية تهم البلاد، الوزير يقرر بعث القليل من البهجة على الحضور فيضع بعض القوارير من خمرة الحياة في عصير المجلس الوزاري وتحدث البهجة لثلاثة اسابيع كاملة وهي مدة تنظيم احدث المهرجانات واعرقها "ايام قرطاج البورنوغرافية" في اشارة ساخرة لكثرة الايام وتعددية اسم قرطاج دون نتائج حقيقية ثقافية.
"ايام قرطاج البورنوغرافية" التظاهرة الجديدة المتخيلة عام 2034 تنتصر لكل الحقوق، شعارها "بورنو حلال" تعكس وسطية هذا البلد ولكل وزير رؤيته الخاصة للمهرجان والمشروع، طيلة العرض ستدافع نيروز عن فكرتها بداية من الفريق المكون من (ابراهيم تحرش واسمهان ادارة ودينا كوكتال) وثلاثتهم موجودون في اغلب تظاهرات تونس الحقيقية، وصولا الى نجاح منقطع النظير سيحققه المهرجان، بفضله ستصبح دروس التربية الجنسية المادة الاساسية لعمل كل الوزارات، ستحقق البلاد ثروة في العملة الصعبة (الكناترية والمهربين يضعون اموالهم في البنوك للحصول على تذاكر لدورة المهرجان وعروضه) وثورة سياحية غير معهودة فبهد فشل الثورات السياسية ومعرفة ان ليس للثورة الثقافية نخبة تقودها اصبحت الثورة الجنسية هي الحل وستكون حسب احداث العمل المحرك الاول لعجلة الاقتصاد والتغيير والخروج من عنق الزجاجة.
بين تونس الحقيقية وتونس المتخيلة في المسرحية الكثير من نقاط التشابه، فكلاهما تستعمل اسم قرطاج على اغلب تظاهراتها، كلاهما قتلتها البيروقراطية الادارية والمعارف والوساطة، تونس الحقيقية تعاني من سوء تسيير في الادارة وثقافة جنسية مهتزة وتونس المتخيلة كذلك، تونس الحقيقية تعيش مشاكل اقتصادية واجتماعية وخاصة ثقافية وتونس في المسرحية هي الاخرى تعاني من خور في الادارة الثقافية وعدم معرفة بقيمة الفنون ودورها في بناء منظومة مجتمعية واعية وثقافة وطنية تنصر لقيم الدولة التونسية.
"2034 اقتراح متواضع" عمل مسرحي جريء، منظومة نقدية متعددة الوجهات لمشاكل الدولة التونسية، انطلقت من تعرية المشهد الكوميدي والساحة الثقافية ونقدها ومرّت على الصناعة والاقتصاد والفلاحة وصولا الى منظومة الحكم والمنظومات السياسية المتعددة، تجربة تستعمل المسرح الساخر لتعرية الواقع ورجّ المواطن علّه يستفيق من سباته، عمل مسرحي يقارع الاعيب السلطة ووسائلها ليدافع عن حق المواطن في الحرية والنقد والمحاكمة العادلة حتى لا يلتجئ هذا المواطن الى قتل نفسه بسبب قضاء غير عادل كما حدث لنيروز في المسرحية التي قررت قتل نفسها قبل ان يحكم عليها القاضي غير المنصف بالموت، فالمسرحية خرافية حدّ الحقيقية والسخرية كانت سلاح منصف الزهروني لاضحاك الجمهور ونقده.