ضدّ كل تلوينات لخوف وجسد الفنان فضاءه الاول ليكتب ويبدع والرقص تجربة للحياة وللحقيقة هكذا يرى علي شحرور واقعه ويعيد كتابته حركة ضاجّة ومتمردة اما جسد الممثل فسيرة البلد بكل ندوبه وانتصاراته وبالجسد كتاب روجي عساف وحنان حاج علي بيروت وقدماها امام جمهور ايام قرطاج المسرحية في عرض "اذا هوى".
والعمل يمزج المسرح بالرقص للمخرج علي شحرور ومساعد مخرج شادي عون وموسيقى عبد قبيسي واضاءة لغيوم تيسون ومصمم صوت بينو رايف والعمل انتصار للحب على الحرب ونصر للأمل على الالم.
موسيقى جنائزية واستعادة لرقصة زوربا تكتب وجيعة بيروت
يحملان بيروت بين نبضات القلب، يسكنهما الوطن فكرة ومدينة، جسديهما وأحلامهما وأفكارهما تتشكل حسب المناخ العام لمدينة بيروت التي احباها فكتاباها على الركح "عشقة" وثورة مسرحية لا تعرف الفناء، هما الحبيبان والمبدعان، قطبين مسرحيين يمثلان لبنان، روجي عساف وحنان حاج علي علامة بارزة في الفن المسرحي وفي العمل الجديد "اذا هوى" يتنفسان عشقا وثورة ويقدمان من جديد بيروت على الركح حلمة لا تموت.
الركح معتم وخاو من الديكور، اربعة كراسي تتوزع الى جانبي الركح، موسيقى جنائزية تنبعث في المكان تدريجيا، السواد يملئ الفضاء ويخيم على الارواح ايضا، عابد قبيسي يجلس خلف حاسوبه عازفا الترومبيت وينثر موسيقاه لتكون اوّل بوابات المتفرج للدخول الى عوالم المسرحية التي ستختزل وجع بيروت والام غزّة في حركات الاجساد المتعبة والأرواح الحالمة.
تتوزع الاضاءة تدريجيا على القاعة، دائما هناك جانب مظلم وحده الممثل المحور سيتسلط عليه الاضاءة تماما كما عملية "الزوم" في السينما، طريقة توزيع الاضاءة في القاعة تشبه كثيرا خبايا قلب الانسان المسكون بألم الوطن، قد يعمل ويحلم وينجح، ربما يتجول روجي عساف في بيروته متوكئا عكازه واحلام الصبا، قد تراقص حنان حاج علي بعض الصبية اللاعبين وربما يبتسمون للعشاق في شارع الحمراء لكن هناك جانب مظلم في القلب جانب لا يمكن ان يفرح لاّنه يتماهى مع وجيعة الوطن، وما عاشته بيروت طيلة اعوام من احداث سياسية وآخرها احداث انفجار المرفأ اتعبت قلب روجي عساف وعلي شحرور فحوّلوا كل تلك الوجيعة الى حركات رمزية قوامها جسد الممثل.
كلمات قليلة يقولها روجي عساف وهو المسرحي الشاعر، كلمات تختصر حالة الوجع اما المساحة الاكبر فستكون للغة الجسد وللموسيقى، صرخات ترسم على وجه الممثلة تجسد عبر موسيقى الترومبيت، ثم يرفع اذان الصلاة وبعدها موسيقى البزق الموجعة، فالموسيقى ستكون محملا لفهم دواخل الشخصية وستصبح وسيلة لقراءة الابعاد النفسية والرمزية لكل حركة.
يكتب جسد الممثل حكايات الوطن، ينقلها ببراعة وخفة الى الجمهور، جسد روجي عساف الذي بلغ عقده السبعين يتحرك ويرقص كطفل يشاغب احلامه ويراقصها، تشاركه مساحة الفرحة والركح حنان حاج علي رفيقة الفكرة والمشروع والوجع ايضا، تصنع اجساد الممثلين كتاب مفتوح عبره نستقرئ واقع بيروت التي احبّاها ويحملانها كلما سافرا لعروضهم المسرحية.
يكتب الجسد مساحة من الحرية، يراقص السماء وتمتد الايادي لتحرر تدريجيا حتى تعانق النجوم والفضاء الممتد، يتخلى الممثل عن عكازه ليرقص، حركات دائرية وبطيئة تنسجم مع الايقاع لكنائسي والجنائزي تتسارع تدريجيا لتشبه رقصة "زوربا" وتتحول الرقصة الى حركات اكثر سرعة تستعيد حفلات الزفافى ثم تصبح اكثر قوة كما "الدبكة" اللبنانية على ايقاع الة البزق الحزينة وكأننا بأقدام الممثلين والراقصين تحي الارض من صمتها وتزرعها قوة وحبّا.
الفنان لا يكبر وبيروت لن تموت
الجسد لغة حية لا تموت، الرقص المسرحي تجربة فنية استعادية وحقيقة مختلفة يكتب معها الكوريغراف علي شحرور واقع بلده لبنان، في كل اعماله يقدم الكوريغراف قصص من لبنان ويمزج الشخصي مع العام ليقدم للجمهور مساحة من الحرية يعبّر عنها بالرقص، وفي العمل الجديد لجئ الى قامتين فنيتين هما روجي عساف وحنان حاج علي ليستعيد ذكريات بلده ويرحل عبر جسديهما الى سنوات كثيرة مضت يستنطق حركاتهما وذكرياتهما ليعيد كتابة تاريه بيروته بالجسد.
"اذا هوى" هو عنوان العمل الذي قدّم في قاعة المونديال للمخرج الكوريغراف علي شحرور وأنجزه على الركح الثنائي ذاكرة لبنان ورمز قوتها روجي عساف وحنان حاج علي، وكلاهما يمثل مدرسة مسرحية لها تاريخها ودورها في ترسيخ مسرح لبناني تجريبي متجدّد وعن العمل يقول شحرور " اذا هوى انطلقت من هوس شخصي، تجاه الذين يكبرون في بلد كلبنان، وها هم يشهدون اليوم على آخر انهياراته، بالطبع، سيحمل هذا العرض الفني أسئلة حول المصير الجماعي، انطلاقاً من تجارب شخصية، وخبرات، وهموم، تنطلق من الخاص، وتصل إلى العام. جيل مرّت عليه الحروب، والأزمات، والصراعات في منطقة المتوسط، وقرّر البقاء في هذا البلد من دون أي أمان" هكذا تحدث شحرور وكل الاسئلة طرحت عبر الجسد لغة ووسيلة مثلى للحوار وللتحرر ايضا من كل قيود اللغة.
"اذا هوى" هو اسم العمل، وللعنوان معنيين جدّ مختلفين، فالهوى الاول يحيل الى السقوط والهوى الثاني يعني العشق وروجي عساف وعلي شحرور كلاهما عشق لبنان حتى في سقوطها الدائم، كلاهما يحمل بيروت في قلبه بكل خرابها ووجعها وعلى الركح يكتبانها قصيدة عشق مطرزة بدماء الروح وموسيقى القلب.
"اذا هوى" سيرة الفنان والمدينة، انسجام غريب بين مدينة وابنها المتيّم بوجعها الازلي، سيرة فنان امن بحكايات مدينته وتاريخها يحملها اينما رقص، اينما يولي وجهه تكون بيروته زاده وملجؤه بجسده يسرد مأساتها وينثر افراحها كما النجوم المزروعة فوق جبالها، سيرة روجي عساف الفنان العاشق لمدينته، قصة علي شحرور الكوريغراف المتمرد على الوجع وبينهما ترقص حنان حاج علي رقصة الدراويش مولية وجهها للشمس وتاركة خلفها كل ندوب الحرب وآثارها، هكذا كانت اذا هوى كتاب مفتوح على حكايات بيروت وقصائدها كتبتها اجساد ممثلين يرون في المسرح مسؤولية ومساحة للحقيقة "بيروت لمسرح والمسرحية".
يكتب المسرحيين سيرتهم ويخلدونها على الركح وروجي عساف قيمة فنية ثابتة في لبنان والعالم العربي، رائد من رواد فن الحكاية، حكى لبنان وفلسطين ومصر في "مذكرات ايوب" و"ايام الخيام" و"حكايات 1882" و"بوابة فاطمة" مسرحي يحمل الوجع العربي بين نصوصه التي ينثرها كزهور الزفاف، يستعيد الماضي القديم ويشحذه بطاقة الراهن ليصنع ادواره ويقدم افكاره، وتشاركه رفيقة الرحلة حنان حاج علي في الوجع والحلم، كلاهما متميز على خشبة المسرح، كل منهما له طاقة ممثل رهيبة يتشاركها مع جمهور المسرح، فالمسرح بالنسبة لهما كما اشعّة الشمس تضيء الدروب وتسكن النفس والمسرح حقيقتهما وحقيقة لبنان.