دوما إتقان الكلمات وجعلها تصل إلى أن تصبح سردية يتداولها الناس على أنها حقيقة. الوصف الذي يطلقه أغلب السياسيين على العشرية الماضية بعد الثورة هي أنها عشرية سوداء، عشرية الخراب وعشرية اللامعنى.
سرى هذا الوصف فنجده عند الجميع، سائقي سيارات الأجرة، موظفو الإدارات العمومية، مرتادو المقاهي، البعض من النخبة ومن لم يجد ما يرضيه أو من خسر مصالحه وغيرهم كثيرون. هؤلاء جميعا سحرتهم عبارة العشرية السوداء ومارسوا جلد الذات دون أدنى تفكير، دون أدنى تنسيب.
هل فعلا العشرية الماضية هي عشرية سوداء؟ هل هي فعلا عشرية الخراب؟ في كل الأحوال هذا الوصف وصف كسول جدا لأنه سهل الإطلاق، يمكن لأي كان أن يردده دون عناء تفكير في المرحلة وفي أسباب أزمتها وفي نقاط قوتها ونقاط ضعفها.
لا أعتقد في الأحكام التي تطلق بكثير من الثقة في وجودها وفي صحتها. أتجه إلى مساءلة الأمر والشك فيه ومنها إلى تنسيب المسألة. هناك في العشرية الماضية أخطاء كبيرة سياسية واقتصادية وأخطاء في التقدير و في الحوكمة و أيضا في القدرة على تحمل المسؤولية. غياب سياسات عمومية واضحة، لا شيء يوحي بأن المنظومة في مجملها تغيرت. لم نستطع مثلا خلق جيل جديد من الفاعلين الاقتصاديين، وبقيت المسألة الاقتصادية تشتغل بنفس ذهنية ما قبل الثورة. نفس السياسة الحمائية التي تشكلت حولها الدولة التونسية من الاستقلال. الحواجز في كل مكان في ظل إدارة متكلسة عموما لم تستطع أن تنهض لإنها بقيت إدارة غير مرقمنة.
الخيار السياسي كان خيارا يعتمد على منظومة برلمانية لشعب ذي ذهنية رئاسية. وهو ما فتح المجال لتعاقب الحكومات ما يعني تعطيل دواليب الدولة وخضوعها لإرادات الكتل البرلمانية التي تتشكل كل مرة بغير صورتها الأولى. لقد كان هذا خطأ في التقدير قادته نوازع سياسية انتقامية من منظومة سابقة دون الأخذ في الاعتبار للمعطيات السوسيولوجية للتونسيين الذين من الصعب عليهم أن يجدوا أنفسهم في ظرف وجيز أمام ثلاث رئاسات تتنازع الصلوحيات.
لم يكن الخيار الاقتصادي هو الآخر مرتبطا بالدوافع التي جعلت التونسيين ينتفضون على نظام سياسي، وهي دوافع متصلة بالتفاوت الجهوي في التنمية وهي المعضلة الكبرى لتونس منذ الاستقلال. انتفاضة الهامش كانت قوية تطالب بالحق في الثروة. بقي الخيار الاقتصادي على ما هو عليه، لم تحدث تغييرات ذات شأن، ولم تظهر أقاليم اقتصادية جديدة طيلة العشر سنوات. بقي الاقتصاد معتمدا على الموارد الكلاسيكية، الفسفاط الذي تعطل ‘نتاجه لسنوات، السياحة والصناعات التحويلية والزيوت والقوارص والتمور. ولم تستطع الحكومات المتعاقبة خلق مصادر جديدة للثروة وهي متاحة. لقد خضعت القوى السياسية وبأشكال مختلفة لهيمنة أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى التي انخرطت مباشرة أو بطريقة غير مباشرة في الشأن السياسي لتفرض خياراتها الاقتصادية والمحافظة عليها. ولم نشهد بروز اقتصاديات جديدة ولا فاعلين اقتصاديين جدد.
ومع هذا كله لا أعتقد أن السنوات العشر الأخيرة كانت سنوات الخراب بشكل مطلق، إنها سنوات أزمة قوية يمكن تجاوزها. إن سردية الخراب سردية كسولة ومحبطة للعزائم وغير قادرة على الفهم لإنها وببساطة سردية سياسية ضيقة الأفق تريد محو بعض نقاط القوة التي يمكن تدفع بنا إلى الأمام. ومن بين أهم هذه النقاط تلك الديناميكية القوية للمجتمع المدني واتساع مجال حرية الاعلام والتعبير والمشاركة في المحطات الانتخابية التي كانت محطات محترمة في جلها علاوة على الحركات الاجتماعية الاحتجاجية والمبادرات المواطنية. تبدو هذه العناصر للعديد من المتابعين غير ذات أهمية أمام الأزمة الاقتصادية وانتشار الفساد والأزمة السياسية و الاجتماعية ولكن في كل الأحوال لا يمكن أن نضع حدّا لهذه الأزمات المذكورة دون العناصر القوية التي كسبناها من هذه العشرية. ولهذا لا نستطيع التقدّم عبر تداول مكثف لسردية عشرية الخراب والسواد. لا يمكننا التقدم بجلد للذات غير مسبوق. نقرأ الدروس من أزمة المرحلة السابقة ونتهيأ للمرحلة القادمة دون سردية الخراب والسواد.
هل كانت فعلا عشرية سوداء؟
- بقلم محمد جويلي
- 12:43 26/07/2022
- 1925 عدد المشاهدات
السياسة كلمات، وعلى الأغلب كلمات مؤثرة، موجعة أحيانا، مخاتلة أحيانا أخرى وواقعية في حالات مغايرة. ولهذا يحاول السياسيون