من أولى أولويات الاختيارات الثقافية لدولة الاستقلال حيث أسست شركات وطنية وأعطيت إلى القطاع العام مسؤولية هذين القطاعين .إلا أن تجارب القطاع العام في هذا المجال وبصفة خاصة الدار التونسية للنشر والشركة التونسية للتوزيع عرفت صعوبات مالية كبيرة قادت إلى تصفية هاتين الشركتين وتراجع قطاع النشر العمومي في بلادنا اثر الإصلاحات الاقتصادية التي فرضها صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الكبرى مع برنامج التعديل الهيكلي .إلا أن هذا الفراغ سرعان ما ملأته دور النشر الخاصة والتي لعبت دورا كبيرا في مصاحبه المشروع الإبداعي التونسي .
ومن ضمن هذه الدور المهمة كانت دار» نقوش عربية» لصاحبها المنصف الشابي وقد كنت سباقة في دخول ميدان النشر في بلادنا .
والى جانب الدور الذي لعبته هذه الدار في ميدان نشر الكتاب وتوزيعه كانت تجسد مسيرة صاحبها المنصف الشابي وخطها التحريري هذه العلاقة الوثيقة بين الإبداع والمشروع السياسي في بلادنا .
• المنصف الشابي ،أو الحياة كفاح:
ولد المنصف الشابي في مدينة سوسة سنة 1947 قبل أن تتحول العائلة إلى مدينة أريانة وتستقر فيها نهائيا. وقد نشأ في عائلة مسيسة وملتزمة باعتبار أن الوالد كان مدير ديوان صالح بن يوسف عندما كان وزيرا للعدل.ومن هنا عاشت العائلة والمنصف الشابي وتأثر كثيرا بالخذلان اليوسفي البورقيبي والصراع العربي الصهيوني لتصبح المسألة القومية هاجسا أساسيا وتشكل مدار انتمائه السياسي والنضالي .
وقد درس الشابي في المدرسة الفرنسية العربية في أريانة ثم بمعهد كارنو مما شكل استثناء عند الشابية الذين كانوا يزاولون تعليمهم في المدارس التقليدية قبل ان يلتحقوا بالتعليم الزيتوني .
وقد ارتبط المنصف الشابي كثيرا بابن عمه المناضل نجيب الشابي وتأثر به والذي كان يفوقه في السن ولعب دور الأخ الأكبر ولازمه في أغلب تجاربه السياسية.
وعند عودة نجيب الشابي من فرنسا طرح على ابن عمه الدخول إلى حزب البعث ولم يبلغ سن الثامنة عشرة من العمر بعد.ولم يستوعب هذا الانتماء إلا أن ثقته في ابن عمه ومعارضة مشروع بورقيبة ساعداه في القيام بهذه الخطوة .
وقد وقع إيقاف المنصف الشابي سنة 1968 ليقع الحكم عليه بسنتين سجنا قضى منهما سنة .وعند إطلاق سراحه تمكن من النجاح في الباكالوريا سنة ليلتحق بالجامعة وانخرط في النضال الطلابي .
ثم قطع صلته من حزب البعث ليكون تنظيمها يساريا جديدا اسمه التجمع الماركسي اللينيني ذو التوجهات القومية والعروبية والماركسية .والتقى في هذه التجربة من جديد بنجيب الشابي وبعديد المناضلين الآخرين من ضمنهم محمد صالح فليس ورشاد الشابي .
وقد واصل المنصف الشابي نضاله الطلابي ليشارك في مؤتمر قربة 1971 حيث كان ضمن الأغلبية المناهضة للسلطة وعاش الانقلاب .ثم كان ضمن اللجنة التي أعدت حركة فيفري 1972.وقد ظلّ متخفيا عند بعض الأصدقاء اثر إجهاض محاولة عقد المؤتمر 18 الخارق للعادة ثم تمكن من الفرار إلى الجزائر بعد شهر.
وفي الجزائر واصل دراسته الجامعية ثم تحصل على الإجازة قبل أن ينطلق نحو الشرق سنة 1973. وهناك ربط علاقات كبيرة مع قادة الثورة الفلسطينية في بيروت ومن ضمنهم جورج حبش ونايف حواتمة .
ثم عاد المنصف الشابي إلى النضال السياسي التونسي ليساهم في تكوين منظمة يسارية جديدة اسمها «العامل التونسي» على اسم جريدة كان يصدرها حلاق تونسي في باريس.وكان المنصف الشابي عضوا في القيادة واشتغل إلى جانب العمل السياسي في تقنيات العمل السري كتدريس الأوراق الرسمية وإعداد الحقائب لحمل الوثائق والجرائد.كما ساهم في إعداد متدربين على الأسلحة داخل الحزب في مخيمات الثورة الفلسطينية .
واثر حصول خلافات داخل هذا التنظيم استقال المنصف الشابي ليساهم في تكوين تنظيم جديد اسمه حزب الشعب الثوري .
وقد ساهمت مختلف هذه التجارب الراديكالية في نهاية قناعاته الشبابية حول التغيير الثوري عبر الكفاح المسلح .وانتقل منصف الشابي كغيره من الكثير من المناضلين اليساريين إلى مجال النضال الديمقراطي والدفاع على الحريات والتعدد. وقد بدأت هذه التجربة الجديدة في التجمع الاشتراكي التقدمي مع نجيب الشابي من جديد ثم أعلن عن انسحابه من هذا الحزب في رسالة مفتوحة قبلت قيادة الحزب نشرها في جريدة الموقف لسان الحزب .وانسحب من العمل السياسي لينحصر نشاطه في العمل الجمعياتي كنائب رئيس جمعية أريانة الرياضية .
ثم عاد إلى الساحة السياسية اثر وصول زين العابدين بن علي الى السلطة ليؤسس حزبا قوميا مع عدة مناضلين منهم عبد الرحمان التليلي والمنصف الأسود والمنصف المرزوقي .
وتم انتخابه كأمين عام لهذا الحزب اثر إيقاف عبد الرحمان التليلي لينسحب اثر رفض السلطة انتخابه .اثر كوّن حزبا جديدا اسمه حزب الأمة الديمقراطي الاجتماعي والذي حصل على مقعد في انتخابات المجلس التأسيسي مما مكنه من المشاركة في تجربة الحوار الوطني .
إلا أن هذه التجربة كانت آخر عهده بالعمل السياسي المنظم عاد إثرها بكل ثقة للعمل الثقافي والاهتمام بالنشر ودار «نقوش عربية» .
• الانتماء القومي، من العمل السياسي إلى الفعل الثقافي:
يعود الاهتمام الثقافي عند المنصف الشابي إلى العائلة التي كانت مهووسة بالثقافة .اذ كان الوالد يحفظ كل أبنائه الشعر بالعربية والانقليزية والفرنسية .وكانت قدرتهم على استحضاره تحدد قيمة مصروف الجيب.وقد ساهمت المكتبة العائلية الكبيرة في المنزل في دعم الشغف الثقافي وخاصة المطالعة .وكان كثيرا ما يتراخى في إعداد الدروس لتوفير الوقت للمطالعة .
إلا أن إقامته بباريس ستفتح للمنصف الشابي آفاقا ثقافية لم يكن يتخيلها .فكانت المسارح وقاعات السينما وجهته الرئيسية في مدينة الاضواء .كما اقبل على المطالعة بالكثير من الفهم .
وكانت لهاته المرحلة انعكاسات كبيرة على مواقف المنصف الشابي حيث ستأخذ الثقافة حيزا مهما في اهتماماته لترافق الفعل السياسي .
وقد اختلف في هذه المسائل وخاصة في الأهمية التي أصبح يعطيها للعمل الثقافي مع أصدقائه ورفاقه في التنظيمات اليسارية والذين لم يعطوا للعمل الثقافي الأهمية التي يستحقها ليصبح عند الكثيرين هامشيا .
وعند عودته إلى تونس انطلق في العمل الثقافي بعد رفض السلطة تمكينه من التدريس بسبب مواقفه السياسية .فبعد تجارب تجارية مختلفة وغير ناجحة انطلق في ميدان النشر بعد نصيحة ودعم محمود المغربي الوزير الليبي السابق والذي أصبح معارضا لنظام القذافي والذي مكنه من كمبيوتر وآخر البرمجيات في مجال النشر .
وكون المنصف الشابي دار «نقوش عربية» والتي انطلقت سنة 1990 ونشرت أول كتاب سنة 1991 لرياض الصيداوي تحت عنوان «حوارات ناصرية» ورغم الصعوبات التي واجهتها أصبحت دار «نقوش عربية» من أهم دور النشر في تونس .وحاولت الدفاع في مسيرتها على خط تحريري مناضل ذي بعد قومي وعروبي .
وتمكنت الدار في هذه المسيرة من نشر 1500 عنوان ذلك يعد رقما قياسيا في تاريخ النشر التونسي .وتمكنت من نشر أسماء مهمة ومن ضمنها الروائي المشهور حسنين بن عمو صاحب أعلى المبيعات في الساحة التونسية .
إلى جانب النشر انغمس المنصف الشابي في الكتابة ليصدر بعض المؤلفات عند دار «نقوش عربية» ودور نشر أخرى .ومن ضمن هذه المؤلفات يمكن أن نشير الى كتاب «صالح بن يوسف ،الحياة كفاح « والذي صدر سنة 1991.كما ينكب الآن على إعداد يومياته وإنهاء كتاب جديد بعنوان «في الثقافة».
تعتبر تجربة المنصف الشابي ودار «نقوش عربية» من التجارب الهامة التي ساهمت في تطوير المشهد الإبداعي وظهور العديد من الأقلام الجديدة في الرواية والشعر باللغتين العربية والفرنسية .وقد استندت هذه التجربة منذ انطلاقتها إلى العلاقة العضوية والمتينة بين المجال السياسي والمجال الإبداعي ليكون النشر والكتابة للمنصف الشابي رافدا مهما لمواصلة نضاله السياسي الديمقراطي العروبي.
وجوه من الإبداع (26): المنصف الشابي ، الكتاب والحلم العربي
- بقلم حكيم بن حمودة
- 10:31 01/11/2021
- 1128 عدد المشاهدات
لعب قطاع النشر دورا أساسيا في التعريف بالمشروع الإبداعي التونسي وحمايته من الاندثار بصفة خاصة الرواية والسينما والشعر والمسرح .وكان قطاعا النشر والتوزيع