عن نشاط الحزب الشيوعي التونسي في 18 جويلية 1981. وتتزامن هذه الذكرى مع احياء مرور مائة سنة على انطلاق النشاط الشيوعي بالبلاد التونسية. وقد مثل صدور الجريدة استرجاع الحزب الشيوعي لحقه الطبيعي في ابداء رأيه والتعبير عنه بعد مظلمة تاريخية حرمته من ذلك ما يزيد عن ثمانية عشر عاما (1963 - 1981) وبعد محاولات عديدة ومتكررة قام بها في العشريتين الأخيرتين لتمكينه على الأقل من اصدار جريدة « حسب ما وصفته افتتاحية هذا العدد الأول من الجريدة تحت عنوان «على الدرب» بقلم عبد الحميد بن مصطفي مدير التحرير وأضاف ان « الطريق الجديد» هي تجسيم للمسار الديمقراطي الذي هو في بدايته وتجسيد للتعددية التي بدأ الاعتراف بها ووصف فيه صدور الجريدة بأنه «كسب للشيوعيين الذين لم يسكتوا يوما عن حقهم المسلوب» وهو في الوقت نفسه كسب للتقدميين والديمقراطيين الذين ايدوا هذا الحق وهو بالتالي كسب لتونس».
• المطالبة بمراجعة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية
تجدر الاشارة الى أن الصفحة الأولى من هذا العدد الأول جاءت موشحة في اعلاها بعنوان بارز بالبند العريض هو: «مستقبل تونس ام مستقبل البرجوازية الجديدة». وكان ذلك للتأكيد على ان «البلاد في حاجة الى إعادة النظر في الاختيارات الاقتصادية» وهو يشير الى طبيعة الاهتمامات السياسة للحزب الشيوعي التونسي في تلك المرحلة والى نوع القضايا التي هو منشغل بها ويعمل على تجنيد اوسع القوى لتحتل هذه القضايا ما تستحقه من اهتمام وانه وقد استعاد حقه في النشاط العلني فهو يبتغي اداء واجبه في ابداء رأيه حولها. مثل هذا العنوان «ألاستفزازي» في صيغتة الاستفهامية والاستنكارية دعوة مستبطنة الى ضرورة تناول مصلحة البلاد ومستقبلها بارتباط مع مراجعة التوجهات الرأسمالية المفتوحة التي انخرطت فيها السياسات الاقتصادية للدولة منذ بداية عشرية السبعينات وكأنها الخيار الذي لا بديل عنه وهو ما يشبه دقات ناقوس الخطر لمخاطبة القوى الوطنية في السلطة وفي المعارضة ويلفت نظرها الى ان ارتهان مستقبل البلاد بالمصالح الضيقة للبرجوازية الجديدة سوف تكون نتائجها على مستقبل تونس . لقد احدث هذا العنوان ردود فعل غاضبة حينئذ في اوساط الحزب الدستوري عبرت عنها كل من جريدتي العمل و لاكسيون (صحيفتي الحزب الحاكم) بمقالات هجومية وعنيفة اتهمتا فيها الحزب الشيوعي بأنه « انحدر الى استبلاه الناس وقلب الحقائق وتوخي طريق الاثارة وعدول عن اللهجة المعتدلة قبيل الانتخابات « وان الحديث عن «البرجوازية الجديدة» وعن الاتجاه الرأسمالي « يتناقض مع ما صرحت به قياداته بعد الاعتراف من انهم «يؤمنون بوحدة الشعب الوطنية» وانهم « سيعملون في نطاق الشرعية الدستورية وسيحترمون القواعد الدستورية السليمة».
لعله من المفيد ان نذكر هنا ان ما نسميه «البرجوازية الجديدة» ليس نعتا لتمييز جزء من الطبقة البرجوازية في تونس وإنما هو مفهوم سياسي جديد تداوله الحزب الشيوعي ووضعه لأول مرة في مؤتمره الثامن ( في فيفري 1981) ووقع تعميقه واثراؤه في الوثيقة السياسية للمؤتمر التاسع ( في جوان 1987) للتعبير عن ان طبقة البرجوازية في تونس نشأت بالأساس وترعرعت مع دولة الاستقلال وكانت تحرص على تأمين تمويلاتها عبر بقائها في اشد الارتباط بالسلطة الحاكمة في الادارة وفي المؤسسات المالية وبأصحاب القرار في الهياكل المركزية والجهوية للدولة وهي بذلك تكون خاضعة باستمرار لدوائر النفوذ السياسي في الحزب الحاكم تتأثر بسياساته وتحاول بدورها التأثير في قراراته . وكان السؤال المتداول حينئذ الى اي مدى ستنجح الدولة في الحفاظ على استقلالية سياساتها الاصلاحية المعبرة عن مصالح كل الفئات الشعبية ؟ وكيف ستتصرف الدولة ازاء المصالح الضيقة للبرجوازية الجديدة الاقتصادية منها والسياسية والتي تتناقض مع المشروع الاصلاحي لدولة الاستقلال ؟
كان مفهوم «البرجوازية الجديدة» الذي صاغه الحزب الشيوعي لتحليل وفهم الظواهر السياسية التي تلقي الضوء على المحتوى الطبقي للسلطة مدخلا لفهم وتحليل القضايا المرتبطة بتحديد العلاقة بين التوجه الرأسمالي لسياسة الدولة والبنية الطبقية للمجتمع وان لم تكن دائما محل اجماع داخل الحزب فقد انتجت اجتهادات فكرية وسياسية ساهمت في تمكين مناضلي الحزب من فهم الواقع و تجنب النظر الى الرأسمالية نظرة مبسطة لا تقدر مدى تغلغلها في المجتمع ومدى قدرتها على الاستمرار رغم ازماتها وتناقضاتها و لا تقدر امكانيات اجزاء من القطاع الرأسمالي في دفع التنمية في بعض جوانبها ودعم قوى الانتاج وعصرنة الاقتصاد « او تستهين بإمكانية بروز شرائح مؤثرة من البرجوازية الجديدة لها توجهات ليبرالية تؤهلها لتكون جزءا من الحركة الديمقراطية مستعدة لتناضل من اجل سياسة بديلة عن سياسة الانغلاق والقمع التي يتوخاها الحزب الدستوري آنذاك .
من القضايا التي شغلت الشيوعيين والتقدميين حينئذ كيف يمكن مراكمة المكاسب التي تحققت في اطار المشروع الوطني لدولة الاستقلال - على اهميتها - والتي ما زالت مهددة بالتراجع من جراء التوجهات الرأسمالية لسياسة الدولة - اذا لم يتم ادخال تعديلات جوهرية في خدمة اهداف الاقتصاد الوطني وفي ضمان المحتوى الاجتماعي للتنمية والحد من النهم المتنامي للبرجوازية الجديدة في تكديس الثروة عبر مسالك ملتوية وغير مشروعة ومخالفة للقانون مثل التهرب الضريبي الى جانب الاستحواذ عن طريق عمليات الخوصصة للعديد من فروع النشاط الاقتصادي الذي تديره الدولة. فمن القضايا الهامة التي طرحت منذ نهاية السبعينات هي ازمة «الاصلاحية الدستورية» التي لم تعد تغذيها سياسة اصلاحية بل اصبحت في عدة جوانب من نشاطها غطاء ايديولوجيا وسياسيا للرأسمالية ومن مظاهر هذه الازمة في المستوى السياسي نجد « ازمة الدور القيادي للحزب الاشتراكي الدستوري» بالنسبة للمجتمع وللجماهير الشعبية « ويتجلى ذلك في تقلص تأثيره تقلصا يكاد يكون كاملا احيانا بالنسبة للشباب الجامعي والعمال وفئات واسعة كانت تقليديا تتأثر بشعاراته وفي استقلال تيارات عنه منها من اصبحت معارضة وفي استقلال الحركة النقابية التي كانت تحت تأثيره».
• أهمية دور الاتحاد العام التونسي للشغل وضمان استقلاليته
كما تضمن العدد الأول مقالا بقلم جنيدي عبد الجواد تحت عنوان «حتى يكون الاتحاد في مأمن من محاولات السيطرة والاحتواء» استعرض فيه الوضع النقابي ومسألة الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها و «مشاركة الاتحاد» ضمن قوائم الحزب الدستوري في ما عرف بقوائم « الجبهة الوطنية التي اقترحتها الحكومة وحظيت بموافقة الهيئة الادارية للاتحاد. لقد تمت الاشارة في المقال الى ما أثارته مثل هذه المواقف من تبعات سلبية وخلافات بين النقابيين منبها الى ضرورة معالجتها بالوسائل الديمقراطية وبالتغلب على المصالح الفئوية الضيقة حتى يبتعد (الاتحاد) عن خطر التصدع والعثرات والانتكاس» وتم التأكيد على ان الوضع بايجابياته ونواقصه وتناقضاته يطرح على الاتحاد العام التونسي للشغل مهاما ثقيلة ومسؤوليات جساما تجعله في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به البلاد ويمر به الاتحاد في اشد الحاجة الى المحافظة على وحدة نقابية صماء وانتهى الى التنبيه ان «المقترح الذي تقدمت به الحكومة لتشريك الاتحاد في ما يسمى بجبهة ووطنية في هذا الظرف بالذات – رغم التجاوب الذي لقيه عند اغلبية نسبية من اعضاء الهيئة الادارية ومن بينهم اعضاء بارزون من المكتب التنفيذي للاتحاد – يشكل محاولة من الحزب الدستوري للاستفادة الآنية من مواقعه داخل الهياكل القيادية للاتحاد وهي محاولة قصيرة النظر لأنها تتناقض مع الواقع الجديد الذي تعيشه الحركة النقابية وتعيشه البلاد». لقد حرص الحزب الشيوعي التونسي دائما على حماية وحدة النقابيينو تثبيت المكاسب التي مازالت هشة والمتعلقة بالاستقلالية والتي بذل في سبيلها النقابيون تضحيات جسيمة بما يجعل «المنظمة الشغيلة في مأمن من محاولات السيطرة والاحتواء مهما كان شكلها ومصدرها».
• توازن غير مستقر بين الجديد والقديم
كما تضمن هذا العدد جزءا مما جاء في الندوة الصحافية الأولى التي عقدها الحزب الشيوعي التونسي يوم السبت 8 سبتمبر 1981 بعد رفع الحظر والتي تميزت بحضور مكثف لممثلي وسائل الاعلام الوطنية والأجنبية وحظيت باهتمام واسع لدى الرأي العام واحتوت على جملة من التوضيحات قدمها محمد حرمل السكريتير الأول للحزب حول الوضع السياسي الذي اعتبره «جديدا رغم ما فيه من جوانب قديمة هامة» بحيث ان «ما يمتاز به هذا الوضع هو ذلك التعايش المتناقض والمتضارب بين القديم والجديد». تجلى القديم حسب وصفه في تواصل التعسف وتقييد الحريات بهذا الشكل او ذاك حيث بقي الزعيم النقابي الحبيب عاشور مقيدا في تحركاته وظل الوضع على حاله في ميدان الثقافة وعموما كان الوضع متميزا بمساعي كانت تبذلها اوساط نافذة في الحزب الدستوري لإرجاع سيطرته على الحياة السياسية. أما الجديد فقد تجلى في ما سمي بالمسار الديمقراطي الذي ظل يتحرك ببطء و تناقض وتعثر ولكنه تحرك على اية حال « والجديد هو ظهور بعض الصحف المعارضة بدأت بجريدة الرأي والمستقبل وصحف اخرى ثم الاعتراف بالاستقلالية النقابية وانعقاد مؤتمر قفصة للاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان مؤتمرا ذا أهمية بالغة ثم رفع الحظر عن الحزب الشيوعي التونسي ويواصل هذا التقرير «كل هذه الأحداث اعتبرناها تاريخية رغم السلبيات والنواقص التي حفت بها وهي تمثل الجديد ولو في بداياته فإننا نشجعه ونعيره اهمية بالغة لأننا نؤمن بقانون التطور والتغيير ونؤمن بمعركة الجديد والقديم وندعم الجديد ولو كان هشا ندعمه ولو كان ضيقا ومتناقضا ندعمه بكل وعي ويقظة لازمة ازاء تقلبات الأحداث ندعمه بكل شعور بالمسؤولية الملقاة على كاهلنا وسنبذل قصارى الجهود ليشق ذلك الجديد طريقه الى الأمام وينجح».
• الطريق الجديد أخذت المشعل عن أسلافها في 1981 لكنها توقفت عن الصدور سنة 2015
أما الصفحة الأخيرة من هذا العدد الأول فكانت تحت عنوان «الطريق الجديد تأخذ المشعل» لتقديم لمحة موجزة عن التاريخ الثري للصحافة الشيوعية في تونس بدأ بجريدة يومية «حبيب الأمة» التي صدر عددها الأول في 23 اكتوبر 1921 و وقع منعها شهرا واحدا فقط بعد صدورها وجاءت بعد عناوين عديدة مثل حبيب الشعب والنصير والمظلوم والطليعة التي تواصل صدورها من أواسط ثلاثينات القرن الماضي إلى أن تم منعها في في ديسمبر 1962 . ولئن استطاعت أن تصمد -أمام الاستبداد السياسي- عناوين مثل الطريق الجديد والموقف والرأي ومواطنون وتواجه بثبات المضايقات والمحاكمات والمنع الا أنه بعد ثورة 17-14 ورغم ما تنعم به البلاد من حرية صحافة واعلام بصفة عامة وبحرية مطلقة لا تجد لها مثيلا إلا في الدول العريقة في الديمقراطية ألا أن صحافة الرأي والحزبية على وجه الخصوص شهدت تراجعا خطيرا نظرا للصعوبات المادية التي باتت تعترضها مما اضطر الطريق الجديد الى احتجاب قيل أنه مؤقت في جويلية 2015 ولكن بعد مرور أكثر من 6 سنوات يمكن الاقرار أن الصحافة الحزبية بجميع اتجاهاتها غابت تماما عن المشهد الاعلامي التونسي.