قيس سعيّد أومقولة كارل شميت حول الزعيم الفوهرر الذي يحمي القانون 1

بقلم: وليد العربي - جامعي
1 - برفضه تسمية الوزراء الذين نالوا ثقة مجلس نواب الشعب منذ حوالي أربعة أسابيع، وامتناعه عن استقبالهم لأداء اليمين الدستورية،

فإنّ الرئيس قيس سعيّد يكون بشكل من الأشكال بصدد استنساخ وتكرار التجربة الألمانية المريرة، تجربة أدولف هتلر إبان وصوله لأعلى سدة الحكم في بلاده سنة 1933. فمن وجهة نظره الشخصية ومن وجهة نظر مؤيديه وأتباعه الخُلَص، لا يمكن اعتبار الرئيس قيس سعيّد بتصرفه هذا، بصدد خرق الدستور، وإنما هو وبصفته «ساهرا على احترام الدستور»، بصدد خلق القواعد بصفة فورية بهدف حماية هذا الدستور من التجاوزات، كما يحمي البلاد من الفساد... وبذلك يكون قد سلك سلوك «الفوهرر» أي القائد والزعيم. فـــ «الفوهرر عندما يخلق القانون بكيفية فورية بحكم سلطته كــفوهرر وكقاض أعلى، إنما يحمي القانون من خطر التجاوزات... فالفوهرر الحقيقي هو كذلك قاض باستمرار». هذا ما كتبه كارل شميت Carl Schmitt فقيه القانون وأحد كبار منظّري الحزب النازي، في مقال نشره سنة 1934 يدعم فيه أدولف هتلر، ويحمل عنوان «الفوهرر يحمي القانون».

كارل شميت الذي يردد مضمون كلامه اليوم في تونس عدة وجوه معروفة في الميدانين السياسي والقانوني سواء من الذين تشيعوا لقيس سعيّد أو حتى من خصومه الذين اشتبه عليهم الأمر من القائلين إنّ اللحظة سياسية وأنّ الأزمة الحالية تتطلب حلا سياسيا لا قانونيا، هو صاحب مذهب التقريرية الذي يتيح للسيد، لصاحب السيادة إمكانية الخروج عن القانون في حال الاستثناء، وهو مَن يقرر حالة الاستثناء. فهو في حِلّ من أيّ قيد قانوني سابق الوضع، غير مرتبط بآجال، فوق كلّ «ظرف زمني»، فـــ «رئيس الدولة – كما جاء بالرسالة التي وجهها يوم الاثنين 15 فيفري 2021- غير ملزم بأجل محدد في نص الدستور» ، وبإمكانه تعليق العمل بالقوانين وتعطيلها وخرقها في الحالات الاستثنائية والظروف الاستثنائية وحالات الطوارئ والحالات الاستعجالية أي عند الشدائد والأزمات، بإمكانه القيام بما هو خارق للعادة، أي إتيان المعجزة التي تحولت من المجال التيولوجي-اللاهوتي إلى المجال السياسي الحديث، أي «تقرير حالة الاستثناء» بالمعنى القانوني الحديث، ذلك أنّ كارل شميت يعتبر في كتابه «تيولوجيا سياسية» (1922) «Théologie politique» أنّ الحداثة لم تحدث تغييرا نوعيا في المفاهيم، بل إنها اكتفت فقط بعلمنة المفاهيم التيولوجية أو اللاهوتية القديمة، فاستبدلتها بمصطلحات جديدة، في حين أنها أبقت على الجوهر القديم، غلفته فحسب بغلاف علماني الشكل والمظهر دون المضمون. فأحلت الدولة والقاضي محل الإله، وعوضت النصوص المقدسة بالدستور، والمعجزة بالسيطرة

على حالة الطوارئ... لم ير كارل شميت في الحداثة ثورة، بل رأى فيها مجرد خدعة. ولم يُصَدّق أنّ العالم الحديث زالت عنه جاذبيته الخلّابة «السحرية» حسب تعبير ماكس فيبر Max Weber : « Le désenchantement du monde» لم يُصَدِّق كارل شميت مقولات الحداثة وادعاءها نزع السر والغموض عن عالمها الذي هجرته الآلهة والملائكة والشياطين والجن والأرواح الخيِّرة والشريرة والأساطير، و حلّ محلها العقل والعلم لا كعقيدة إيمانية جديدة، بل كقيمة ومعيار للمعرفة وآلية لفهم العالم وتنظيم الدولة–الإدارة (البيروقراطية) والاقتصاد والمجتمع. لم يُصَدّق كارل شميت كل ذلك... فاعتبر أنّ المفهوم الحديث «حالة الاستثناء» ليس سوى نسخة معلمنة لمفهوم «المعجزة» ذي الجذور التيولوجية.

يبدو أنّ الرئيس قيس سعيّد لا يُصَدِّق بدوره مقولات الحداثة. فهو لا يرى في اليمين الدستورية إجراء دنيويا، مدنيا، شكليا أو جوهريا، لا يهمّ، يتم فيه الاحتكام لضمير الفرد لضمان إخلاصه في أداء المهام الموكولة إليه، بل يرى إنّ «الأهم (في اليمين) هو محتواها والآثار التي يجب أن تُرتّب عليها. فمن يُقسم بالله العظيم ويضع يده اليمنى على المصحف الكريم لن يحاسب في الحياة الدنيا فقط، بل سيقف بين يديه سبحانه وتعالى ليُسأل عمّا فعل...». وحين يتحدّث الرئيس خلال المواكب السياسي العمومية عن الصراط وعبوره وعن يوم الحشر، فمن الواضح والجليّ أنه لم يستوعب مقولات الحداثة السياسية والقانونية. نظرة أسطورية للأمور بما في ذلك الدين...
الحداثة وما لازمها من نزع السحر عن العالم لا تعني أنّ الناس مطالبون بالضرورة بالتخلي عن عقائدهم الدينية، فهذا يدخل في باب حرية الضمير والمعتقد التي أتت بها الحداثة نفسها، ولكنها تعني أنهم مطالبون بتفكير يحمل حدا أدنى من العقلانية وبالكف عن القول بالأساطير، وخاصة بعدم تجاوز الحدّ الذي تنقلب فيه هذه الحرية إلى فرض رؤية ما على الآخرين، وخصوصا عندما يتعلّق الأمر بالخطاب الذي ينطق به، في الفضاء العمومي، أناس يشغلون وظائف عامة.
ولكن، ليس هذا حال الرئيس قيس سعيّد الذي تغلُب النظرة السحرية والأسطورية على أقواله وأفعاله...

2 - لا مكان للقانون ولا للمؤسسات في ظلّ هيمنة مثل هذه النظرة العجائبية، الأسطورية على الذهنيات ؛ لا مكان فيها إلا لشخصيات الزعماء وللمعجزات. فالزمن ليس سوى معجزات متتابعة، أو الحالات الاستثنائية في الترجمة الحديثة حسب كارل شميت الذي يفضِّل الاستثناء على القاعدة ويعتبره لا فقط تأكيدا لها، بل هو القاعدة.
في هذا التصور، تكون الأولوية للسياسي لا للقانوني، فالسيادة بالأساس سياسية وعملية وتطبيقية، لا قانونية مجردة. وأولية السياسي تتأتى من كونه خلاقا، تأسيسيا، منشأ أما القانون، فهو في ماهيته تعديلي. في هذا التصور، السيد أو صاحب السيادة هو السلطة التي لها القول الفصل، التي تتّخذ القرار النهائي دون أن يكون له بالضرورة أساس قانوني. ويكون حينئذ بإمكان السيد تقرير حالة الاستثناء والخروج بمقتضاها عن القانون الشكلي السابق لكل الوقائع كما تصوره ووصفه ونظّر له هانس كلسن Hans Kelsen الخصم اللدود لـــكارل شميت. حين يخرق السيد، الفوهرر، الزعيم القانون فبغاية حمايته من خطر التجاوزات... حين يخرق الرئيس القائد قيس سعيّد الدستور، فحرصا منه على السهر على احترامه وعلى التصدي للتجاوزات التي يأتيها البعض تحت غطاء الشكلانية القانونية، فاتّباع اجراءات وشكليات إصدار القوانين لا يكفي لردم الهوة السحيقة التي قد تفصل بين الشرعية والمشروعية، تمييز كثيرا ما يستخدمه الرئيس قيس سعيّد. ففي خطابه كما في كتابات كارل شميت وخطب الفوهرر، الفارق شاسع بين القانون الجوهري ذي الماهية الأخلاقية والمضمون العادل، القانون «الحقيقي» الذي له وحده المشروعية، من جهة، والقانون الشكلي المحايد الذي له فقط الشرعية، من جهة أخرى...

وحين يصم القائد الرئيس بعض الوزراء –المقترحين– بالفساد، فلأنه القاضي الأعلى؛ و هو لم يفتكَّ بذلك القضاء من القضاة؛ بل إنّ «سلطة القضاء، حسب كارل شميت، تنبع من سلطة الفوهرر، وكل فصل بين السلطتين أو وضعهما في وضعية مواجهة، إنما هو وضع القاضي في وضع مضاد للزعيم». فحكم القاضي لا يمكن أن يخالف قول الزعيم ؛ وقول الأخير بمثابة حكم القاضي. ولا مجال بعد ذلك لأن يستفيد المجرمون والمفسدون والخونة من ضمانات القانون الجزائي كقرينة البراءة وحقوق الدفاع وحياد القاضي وعدم انحيازه.

في ثلاثينات القرن الماضي وباسم الشعب وبمباركة من أغلبيته وبتأييد عدد من المفكرين، ربط الفوهرر بين الفساد والأحزاب والنخبة. فأقصى الأخيرة واضطهادها، وحلّ الأحزاب، الواحد تلو الآخر، واستولى شيئا فشيئا على صلاحيات البرلمان لاسيما بمقتضى قانون 24 مارس 1933 الذي مكّنه من جميع السلطات... وأنهى الجدل الديمقراطي أو حالة الجدل غير المتناهي... أعداء الديمقراطية القديمة والحديثة، يكرهون النقاش والجدل والحجاج... لا يحبون العقل النقدي ولا الشك كمنهج تفكير... يميلون للقرار والنجاعة وكل ما هو عملي وتطبيقي... وكذا الشعب الذي يتكلمون باسمه، وكذا الزعماء الشعبويون، أدولف هتلر وكذلك قيس سعيّد على ما يبدو... لذلك يمقتون الأحزاب والبرلمانات والنخب المثقفة ووسائل الإعلام... يرون فيها «مجموعة فاسدة واحدة ودور شعوذة وإفتاء»... يعتبرونها مدخلا للفرقة والفتنة وتقسيم الشعب الموحد... يرون أنّ القضايا التي تثيرها بالخصوص النخب المثقفة لا تَهُمّ الشعب في شيء، بل من شأنها أن تمس عفته وطهارته... وفي نهاية المطاف وباسم الفضيلة والمحافظة على نقاوة الشعب، ينقلبون عليه، ويفرضون عليه وصايتهم ويخضعونه لأهوائهم...

3 - ما من تيار شعبوي ظهر إلا تزعمه قائد ؛ وما من تيار شعبوي وصل إلى الحكم، إلا وانقلب على الديمقراطية وعلى المؤسسات وعلى الدولة. وما من تيار شعبوي استلم السلطة عن طريق الانتخاب، إلا واستحال دكتاتورية فجة... وما من تيار شعبوي وصل إلى الحكم، إلا وتحكّم في مصائر الناس فآل حكمه إلى كارثة على بلاده أو على محيطها الإقليمي أو على العالم بأسره...، بدءا بأدولف هتلر وصولا إلى دونالد ترامب، مرورا بـــهوڤو شافيز في فنزويلا رغم أنّ الأخير يساري...
ولكن أيضا، ما من تيار شعبوي وصل إلى الحكم، إلا ووجد شعبا أو أغلبية من الشعب تنتخبه وتسانده... وما من تيار شعبوي وصل إلى الحكم، إلا ووجد مفكرين يبررون له توجهاته وخطابه وسياساته، ويضفون عليها المشروعية... كارل شميت مثلا صاحب مذهب التقريرية في ألمانيا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي... لقد آلت التقريرية والشعبوية إلى حرب دموية ومدمرة بين عامي 1939 و 1945 دهب ضحيتها حوالي خمسين مليون شخص عبر العالم...
فهل لنا أن نتّعظ من تجارب غيرنا ؟ !

4 - قد أكون بالغت في رصد أوجه التشابه بين الرئيس قيس سعيّد وأدولف هتلر، فتونس ليست النمسا–ألمانيا، وثلاثينات القرن العشرين ليست عشرينات القرن الحادي والعشرين، ودستور 27 جانفي 2014 ليس دستور جمهورية فايمار لسنة 1919، ولا يوجد في تونس حزب نازي، وليلة السكاكين الطويلة لن يكون لها مثيل في تونس، والحرب العالمية الثالثة لن تقع، وقيس سعيّد ليس أدولف هتلر... قلتُ إنني قد أكون بالغت بعض الشيء، إلاّ أنّ كل شخص يقرأ كتابات كارل شميت بعد انتخاب قيس سعيّد رئيسا للجمهورية، لا بدّ أن ينتبه إلى أنّ عددا منها كأنما كُتِبت خصيصا له ؛ وهذا أمر مستحيل طبعا.
غير أنه ومنذ «تتويجيه» رئيسا للدولة، يبدو أنّ قيس سعيّد أصبح فعلا يُشكِّل تجسيدا لفكر كارل شميت وخاصة لـــ «ثوريته المحافظة»... وهذا ما يدعو كلّ المثقفات والمثقفين الذين يبحثون له عن تبريرات ويدعمونه، تحت أيّ عنوان من العناوين ومهما كان الداعي، إلى رفع هذا الدعم عنه... وعند الاقتضاء الاستعداد للمقاومة، فمشروعه في منتهى الخطورة...
معركة اليمين الدستورية تبدو إحدى أهم المعارك ضد الدكتاتورية الناشئة...

-----------

1- « Le Führer protège le droit » est le titre d’un article publié en 1934 par le juriste allemand Carl Schmitt pour apporter son soutien au Führer, « le leader » nazi Adolf Hitler.
مقتطفات من نص الرسالة التي وجهها يوم الاثنين 15 فيفري 2021 رئيس الدولة قيس سعيّد لرئيس الحكومة هشام المشيشي حول مطلب الأخير بتحديد موعد لأداء اليمين لعدد من أعضاء الحكومة على وجه الخصوص وعلى التحوير الوزاري الذي بادر به مؤخّرا على وجه العموم. مع الإشارة إلى أنّ المقال يتضمّن عدة مقتطفات من هذه الرسالة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115